عندما يخرج الكاتب لسانه للجميع

مازالت ثيمات الجنوب في الأدب المصري بما تعكسه من واقع قاهر، تجذب الكثير من الكُتّاب، بل صارت هي الرَّهان الرابح في ظلِّ النجاحات التي حققتها الأعمال التي عالجتها دراميا وسينمائيا، وإن كان الكثير منها اتَّسم بالمبالغة والانحراف عن الواقع إلى تقديم صورة بشعة ومنفّرة لا تُعبِّر عنه وإن كانت تشوِّهه. ومن ثمّة عندما تأتي الكتابة عن هذا الواقع من موهبة عايشت هذا الواقع، فهو أمر حريّ وجدير بالإنصات لما يقول. وهذا ما فعله القاص محمود عبدالستار في مجموعته القصصية “بمذاق النعناع المنعش”.
قهر الجنوب
يقدم لنا عبدالستار في مجموعته القصصية الصادرة عن «دار وعد للنشر والتوزيع}، عوالم الجنوب المصري لا مِن برج عالٍ أو بنظرة متعالية عليه، وإنما بنظرة تحمل صدقا وتماسا حقيقيا مع هذا الواقع، فجاءت القصص متماسة مع هذا الواقع ومجسّدة لأزمات شخصياته التي أثقلتها الظروف على كافة مستوياتها، فسعت إلى مقاومتها، وهو ما بَرَعَ فيه السَّارد، حيث مَنح أبطاله حيلا دفاعية قاوموا بها قهر واقعهم لهم، لا بمجابهته والتصدي له، وإنما بالسخرية منه. بل عمد أيضا إلى شريط لغوي لصيق بهذه البيئة، كما اعتمد على الجمل القصيرة التي تحمل التبليغ أكثر من الوصف الإنشائي.
الصفة الغالبة على أبطال المجموعة أنَّهم دائما في مواجهة مع أقدارهم، وفي صراع غير متكافئ، وهو ما يعني أنّ النتيجة ستكون في غير صالحهم، لكن الكاتب هنا جعل أبطاله إشكاليين ومنحهم وسائل مقاومة تُثبت روح العناد والإصرار التي هي من أنساق البيئة التي ينتمي إليها المؤلف وأيضا أبطال قصصه المشدودين إلى المكان بروابط شتى، وهو ما برز بصورة لافتة على مستوى الشكل، حيث جاءت عناوين القصص متماهية مع هذه البيئة، سواء مع قوانينها الحاكمة وأنساقها كما في “سبق إصرار”، أو بعناصرها المشكِّلة كما في عنوان “الفخار، ورائحة الدخان، كسر التابوت”، أو ما أفرزته من صراع نفسي على الشخصيات كما في عناوين “غربة واشتياق واضطراب”. وأيضا على مستوى المتون، حيث عكست قصة “الكلب” مثلا بنية الوعي المتكلِّس، وهذه القصة على قصرها تُبرهن على أسباب الثأر الواهية التي يدفع الكثيرون الثمن عند نشوبه.
ويُقدِّمُ الكاتب في قصة “سبق إصرار” وهي الصفة التي تُعبر عن عادة القتل المجاني الشائع في هذه البيئة، بطلا يقبع في صراع غير متكافئ، بطلا تهاجمه نملة وتدمّر حياته، لكن صراع البطل مع النمل كشف عن صراعات داخلية بين البطل وواقعه، فهو قد وصل إلى سن الخامسة والأربعين دون زواج، والسبب “مفيش نصيب” كما عبَّرَ. صراع البطل مع النملة غير المتكافئ ومع الأسف ينهزم فيه البطل بعدما تفسد عليه حياته وتجرده من ملابسه في نهاية القصة، هو صورة لواقع قاهر مرّ عليه الراوي سريعا في لقطات وهو يكشف حالة التدني في المستشفيات، وأيضا قهر السُّلطة المتمثِّل في تقرير الطبيب الذي يكتب له وصفا لسمِّ نمل، وهو ما يعكس عجزا وهروبا من المشكلة. القصة تكشف فداحة الواقع وفي ذات الوقت تسخر منه.
|
القهر الاجتماعي الذي انعكس على شخصية البطل في القصة الأولى، له امتداد على طول قصص المجموعة ويأخذ أشكالا متنوِّعة منها ما هو ظاهر على الشكل والملابس على نحو الطفلة التي تحمل صندوق اللبن في قصة “اضطراب”، فيدُ الطفلة متسخة “وكان يشق الاتساخ الذي يعلو وجهها خطان منحوتان وعند منبعهما سيل يستعد ليكمل المسيرة إلى ما لا نهاية”. أو قهر مادي يدفع إلى الغربة كما في قصة “غربة”. العوامل ذاتها تدفع إلى التفريط في الجسد كمقاومة للحرمان، وهذا القهر المادي يدفع الطفلة بائعة الجبن في قصة “الأجرة”، إلى أن تتغاضى عن تحرشات سائق السيارة الذي يُخلي لها الكرسي الأمامي، مقابل التنازل عن الأجرة.
يعتمد الكاتب على التقطيع والمونتاج وهو ما أعطى القارئ حقَّ المشاركة في رسم المشاهد وتجميعها ليخرج بهذه اللوحة التي اعتمدها الراوي وكأنّها لوحة سينمائية مليئة بالمشاهد المتوالية والفلاش باك والتقطيع والمونتاج.
سخرية أم سلبية
يتمسّك محمود عبدالستار في أغلب مجموعته بعنصر الحكاية، فكلّ قصة من قصص المجموعة الطويلة قوامها الحكاية في قصة “الرسالة” رغم أن القصة قائمة على حكاية الشاب الجامعي خريج كلية الآداب قسم التاريخ ولم يجد عملا إلا في الفاعل، ويأخذه مهندس ليعمل في الصحراء، وهناك يجد له وظيفة حارس لبرج الكهرباء. إلا أن القصة تسخر من الواقع الفج الذي جعل هذا الجامعيّ يقبل بهذا العمل، كما يكشف عن حالة العبثية التي وصلت إليها الدولة بالإضافة إلى أنّه يعكس أثر الثورة، ولكن الأثر السَّلبي، وهو ما جعل الجامعي يقبل التواطؤ على عمليات السّرقة التي تدار في الصحراء ومع الأسف من رجال الدولة والقائمين على حمايتها. الكاتب برصده لهذه الجزئيات وبلغة بسيطة سهلة أدان الواقع. وكأنه يخرج لسانه للجميع على لسان بطله الذي رفض أن يكون شاهدا (مشفش حاجة) عبر رسالته التي مرّرها للضابط الذي سأله “هل رأيت شيئا مريبا من حولك؟” فيجيب بمكر ودهاء “لا ومسحت الرسالة”.
في القصة التي اتخذها الكاتب عنوانا للمجموعة “بمذاق النعناع المنعش” يقودنا السَّارد في حديث داخلي وإن كان أشبه بخطاب الأنا – الأنت/ الذات وأناتها (بعد تغريبها) في مواجهة معا، حيث صراع الذات وقهرها الذي تفرضه هنا أنساق المكان، على شخصياتها الأساسيتيْن، الراوي الذي تجاوز 45 عاما دون زواج، وقد خط الشعر الأبيض رأسه، والذي يعمل مسؤولا عن دار لطالبات الجامعات المغتربات. والفتاة علياء التي سئمت رتابة قريتها الجنوبية، فتحتال على الأمن حتى تخرج من السكن، كما أنها تقاوم تقاليد العائلة بالزواج من ابن عمها. يدخل السارد في توهّمات وخيالات جامعا بين رغبة الفتاة في الخروج عن الأنساق ورغبته في الزواج، لكن المفارقة تكمن في أن مع الخيالات التي كانت تبحث عن وطن “بمذاق النعناع المنعش” توقفها هذه الأنساق ذاتها عندما يتخيل نفسه “مسجى على وجهه غارقا في الدماء بالقوة نفسها التي كنت ستكسر بها رتابة حياة أهلها المحدودة أحكامُ عالمهم بأحداث معروفة سلفا”.
تتنوّع قصص المجموعة بين القصيرة والطويلة وبين القصة القصيرة جدّا، التي هي أشبه بالومضة كما جاء في قصص: اشتياق، ذهب، فكرة، بيئة. وتبقى السخرية الثيمة الأبرز في المجموعة، فالأبطال رغم وعيهم المفارق لم يجدوا حيلة سوى السخرية من واقعهم بدلا من تبديله أو السعي إلى تغيير أنساقه.