عندما يبدل العالم جلده

نحتفل لنستعين بأصحابنا وأحبتنا وأفراد أسرتنا ونضعهم كستارة، كي نهرب من أشباح الخوف التي تخرج إلينا في الليلة التي يبدل فيها العالم جلده ويرتدي قماشته الجديدة والسميكة.
السبت 2019/01/05
تهيئة الأرض لبداية جديدة

كنت في سن صغيرة، وأنا أشاهد جارتنا المسيحية وهي تجهز للاحتفال بأعياد رأس السنة قبل أيام وربما شهر كامل، ترتب المنزل وتطبخ الأطعمة وتشتري الهدايا وقطع الزينة. وحين يمّر يوم العيد تكون في قمة نشاطها لاستقبال الضيوف والصديقات بمرح وعذوبة وضيافة راقية، حتى ينتهي الحفل فتعود إلى عملها في تنظيف وترتيب البيت بمشقة مرة أخرى. بعد ذلك، تمضي الأسابيع اللاحقة للمناسبة وهي تشتكي من آلام في المفاصل ومغص في المعدة بسبب الإرهاق الجسدي والضغط النفسي الذي تكبدته طوال فترة الأعياد. ومثلها كانت تفعل والدتي في أعيادنا الخاصة، فتنتهي إلى النتيجة ذاتها؛ تعب ومشقة وجهد مبالغ فيه حتى تكتمل التحضيرات وتكون جميع الأمور كما هو مخطط لها.

لماذا يا ترى نحتفل بالأعياد بهذا الحماس.. والتحضيرات المبالغ فيها؟ بقي هذه السؤال معلقاً في ممرات ذاكرتي مثل مصباح قديم، كلما مرّ على تقويم الأعوام عيد جديد نفضت عنه الغبار وعاد إلى سيرته الأولى، مصباح مضاء بسؤال لم أجد إجابة عنه حتى اليوم.

كانت هناك تفسيرات كثيرة ومتناقضة، حيث يتبادل بعض الناس كلمات غير مفهومة وهم في خضم الضجيج والاحتفال، بعضهم يقول إن الاحتفال هذا يعني أننا نجحنا في كل اختبارات العام الماضي وما زلنا على قيد الحياة، لكنْ صوت ما في داخلهم يحاول الخروج من قيود هذا الضجيج.. صوت يقول بأننا نحتفل لنغمر أنفسنا في ضجيج التفاصيل فننسى مرور الأعوام على أحلامنا وأمنياتها المؤجلة، مثلما تمرّ عربة ثقيلة على أغصان شجرة يابسة.. نحتفل لنستعين بأصحابنا وأحبتنا وأفراد أسرتنا ونضعهم كستارة، كي نهرب من أشباح الخوف التي تخرج إلينا في الليلة التي يبدل فيها العالم جلده ويرتدي قماشته الجديدة والسميكة.. نحيط أنفسنا بالفوضى والضجيج والناس، كي لا يتسنى لنا أن نسمع همس الرحيل وهو يجرّ خلفه أيامنا التي مضت ولن تعود؛ يحملها في كيس كبير كما يحمل بائع العتيق أغراض البيت المستعملة وأواني المطبخ المعطوبة والملابس القديمة التي لم نعد بحاجة إليها، أغراضنا المستعملة التي ستباع بأبخس الأثمان بعد أن دفعنا ثمنها غالياً من متجر الأعوام الماضية.

طالعت بعض الصور التي التقطتها كاميرات الهواتف في عواصم عالمية ضجت بالفرح والاحتفالات المبهجة في ليلة رأس السنة، لكن الصور كانت مليئة بمخلفات الاحتفال؛ أكياس طعام وزجاجات شراب فارغة، أعقاب سجائر، قطع ملابس وحتى أحذية تركها المحتفلون وراء ظهورهم لعمال البلديات ليقوموا بكنسها في صباح اليوم التالي، الصباح الذي سكن بعد أن غطت أصوات الضجيج في نوبة سبات طويلة.

 هذا هو تحديداً ما سنفعله؛ نترك أيام الضجيج تمر بسلام ثم نحمل المكنسة ونقوم بجمع المخلفات فنهيء الأرض لبداية جديدة، في فراغ حرّ من الذكريات، فراغ يتسع لحماقات جديدة وأخطاء مكررة، أحلام وأمنيات، مشاريع لفرح ومخططات لفراق ومزيد من قرارات طائشة، في انتظار أن يحلّ اليوم الأخير من العام لنلفظها جميعها مع أكياس الطعام وزجاجات العصير الفارغة، ونجلس بهدوء كمن نجت سفينته من عاصفة مميتة لكنها تحولت إلى حطام، في انتظار عمال النظافة ليعيدوا شارع حياتنا إلى سيرته الأولى.

21