عندما خسرنا بناء "القصة" بسبب الجهاد

خسارة "القصة" لا تعني بقاء الظلم فحسب. إنها تعني خسارة كل شيء. حتى صار من الأولى بالمحتلين والغزاة، أن يقولوا “شكرا” لأهل هذا “الجهاد”، كبيره وصغيره على حد سواء.
الاثنين 2021/10/25
وحشية وعنف أعمى

"مجاهد" آخر قتل نائبا في البرلمان البريطاني خلال اجتماع مع ناخبيه طعنا بالسكين. فتبارك الربط من جديد بين الإسلام والإرهاب، وارتفع عُري “الجهاد” كفضيحة للإسلام.

المحاولات الغربية لربط مفهوم “الجهاد” بالإرهاب كرست لنفسها نجاحا جديدا. وفي مسعى للهرب ما يزال الكثير من قادة الرأي في العالم الإسلامي يتحججون بالقول إن “الجهاد الأكبر” هو “جهاد النفس”، وهو ما يعني أن المسلم ليس ملزما، إلى تلك الدرجة، بـ”الجهاد الأصغر” طالما أن جهاده ضد دوافع النفس هو “الأكبر”.

وهذا كلامٌ فارغ.

نعم، الجهاد من أجل التقويم والإصلاح هو”الأكبر”، إنما في زمن السلم، وعندما لا يكون هناك تهديد من الخارج، وعندما لا يكون هناك من يعمل على تقويض حياة المسلمين وإبادتهم في أوطانهم بقوة السلاح.

ولأن “لكل مقام مقال”، فلم يحصل ولا لمرة واحدة على امتداد التاريخ الإسلامي برمته أن وُضع “الجهاد الأكبر” في تعارض مع مقاومة الظلم والعدوان!

فالأولويات أولويات. والتلاعب بها، ووضعها في تعارض بين إحداها والأخرى ليس سوى وسيلة مبتذلة للوقوف، ضمنا، في صف الظالمين والغزاة.

السؤال ليس ما إذا كان “الجهاد” ضروريا في الإسلام، بل ماذا يبقى من الإسلام من دون جهاد؟

انظر إلى أقدس معاني الإسلام وسترى أنه بدأ ككفاح ضد الظلم والقهر والعدوان. وتحوّل إلى “كفاح مسلح” في اللحظة التي أشهر فيها الظالمون السلاح.

وانظر إلى منظومة القيم والأخلاقيات التي جاء بها وأرساها الإسلام، وسترى أنه كان، وما يزال، ثورة تحررية من أعظم الثورات في تاريخ البشرية وأكثرها استمرارية. إنه ثورة ضد الطغاة، ضد انعدام المساواة، ضد الاستغلال، ضد التمييز العنصري وضد الاستعباد.

وهذه الثورة لم تكن أبدا “حركة سلمية”. ولم تنظر إلى الشر على أنه أمر يمكن التعايش معه. والسلاح كان دائما في المقدمة.

هذا هو الإسلام. إنه دينُ مقاومةٍ باليد قبل اللسان! أما مسلمو “أضعف الإيمان” فإنهم آخر من يحق لهم أن يقرروا مجرى الأولويات!

الجهاد “الأكبر” لا يعود ذا معنى إذا وُضع كذريعة للحيلولة دون مقاومة الغزاة. وعندما يُتخذ كغطاء لمنع المقاومة ولحماية العدوان فإنه يتحول إلى كفر صريح.

شيخ المجاهدين عبدالقادر الجزائري لم يضع “الجهاد الأكبر” كعقبة للحيلولة دون المقاومة بالسلاح. ولا فعل عمر المختار.

وسواء نجح الغرب في الربط بين الجهاد والإرهاب، حتى صار قادتنا يبحثون عن ذرائع للتبرؤ منه، فنحن نعرف أن المسافة بين الجهاد والإرهاب أبعد من المسافة بين الأرض والسماء.

إذا كان الإرهابُ (تعريفا) هو “قتل المدنيين لتحقيق أغراض سياسية”، فالجهاد هو “قتال وتضحية بالنفس ضد الظلم والعدوان”. وهو يتوجه ضد مَنْ يحملون السلاح لا ضد مدنيين عُزل.

الغزاة يقتلون الأبرياء ويتمنون لو ننحدر إلى ما يرتكبون ليكسبوا عذراً وذريعةً، ولكن رباط الجهاد الحقيقي هو مقاومة الظلم، لا صنع ظلمٍ مثله.

والمسافة لا تحتاج بصرا لتدرك أنها أبعد من المسافة بين الأرض والسماء فعلا. لم يكن الجهاد عدوانا ضد مدنيين. والمسلمون لم يأخذوا المدنيين بجريرة العيش في الطرف الآخر مثلما يفعل الغزاة عادة.

العيش في مكة في ظل آلهة قريش لم يكن بحد ذاته جريمة بالنسبة إلى جيش المسلمين. وحتى كفرة قريش ظلوا آمنين عندما لجأوا إلى دورهم أو الكعبة أو دار أبي سفيان!

فكيف إذا كان اليهود والمسيحيون ليسوا كفّارا في نظر الإسلام؟ بل كيف إذا كانوا في نظر القرآن مسلمين أيضا؟

قال تعالى “قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ”.

وقال تعالى “وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ”.

يحسن الاعتراف أن هناك بيننا من عُمي على أبصارهم حتى تحولوا، باسم الجهاد، إلى إرهابيين يختصون بقتل الأبرياء، ولكن هؤلاء لا يمتّون إلى الجهاد بصلة، ولا حتى للإسلام. لأنهم في الحالتين لا يقتفون الأثر الإنساني والتحرري (في آن معا) الذي يشكل الطبيعة الجوهرية للإسلام وللجهاد باسمه.

ولكن ليس كل الجهاد إسلاما.

لقد عرفت النضاليات الثورية في الماضي القريب أنواعا من الجهاد العلماني. وبفضلها حققت حركات الاستقلال العربية منجزات الاستقلال ضد الدول الاستعمارية، بينما كان إسلاميون مثل “الإخوان” يتواطؤون مع الاستعمار ويتلقون دعمه.

ولئن انتهى بعض تلك النضاليات إلى السلطة لتهترئ فيها، فإن نضاليات مقاومة أخرى نشأت على ضفاف مساعي التحرير، فالظلم عندنا يأتي بمقاومته معه.

وقد حدث أن أخلت فصائل المقاومة العلمانية (الفلسطينية منها بوجه خاص) مكانها لفصائل إسلامية ليس بسبب فشل مشروعها الثوري، بل بسبب فشلها هي بالذات كمنظمات.

ويستطيع المرء أن يزعم أن تخلي هذا المنظمات عن قيم النضال وأخلاقياته كان واحدا من أهم دوافع الفشل. وبتحول الثوريات إلى دكتاتوريات، والنزعات التحررية القومية إلى نزاعات لا تحررية ولا قومية، فقد كان الانهيار حتميا.

وهو حالٌ سرعان ما كررته “الجهاديات” الإسلامية المزيفة، بتوجهها إلى إيذاء الأبرياء، فانتهت إلى إفلاس أخلاقي وسياسي مروع.

وبالأمس القريب، دلت مقاومة الاحتلال الأميركي للعراق على أن الإسلام يمكن أن ينهض كقوة محركة للنضال التحرري، حتى بين العلمانيين أنفسهم، عندما يستعيد مكانته الثورية كقوة تغيير، ويحافظ على أخلاقياته، ويكرس جهده لمواجهة الظلم المسلح بالسلاح.

وعلى هذا الأساس، يمكن للثوريين أن يكونوا مجاهدين من دون إسلامية  تستضحل العقول.

جيفارا كان جهاديا من أرفع الجهاديين العلمانيين. ومات شهيدا كبقية الشهداء. حركته المناهضة للاستعمار كانت تكفي لتجعل منه خيرا من ثلاثة أرباع شيوخ الدين وآياته “العظمى” الذين تحولوا إلى رجال إفتاء لصالح الفساد وتغطية الجريمة أو التعاون مع الاحتلال.

صلة الوصل الحاسمة في كل جهاد هي قيمه وأخلاقياته التحررية. من دون هذه الصلة، فإنه ليس سوى جريمة عارية.

رجال الحرية في كل مكان ليسوا بحاجة إلى الإسلام لكي يكونوا ثوريين وينتهوا كشهداء. ولكن الأمر هناك مجرد خيار أيديولوجي، وفردي في الكثير من الأحوال. ولكنه عندنا “فرض عين”، لا خيار فيه.

والحال، فإن معضلتنا أصعب، ومقاومتنا أوجب. لأن الجهادَ شرطٌ من شروط الإسلام. إنه فريضة على المسلم. ويكون أوجب من كل الفرائض الأخرى، عندما يصبح الظلمُ شريعةً سائدة بالسلاح، وعندما يطأ أرضه الغزاة.

إسلام من دون مقاومة ليس بإسلام. إسلام من دون سيف، حركة بوذية بالأحرى. ولكن ضد مَنْ؟ وما هي معاييره الأخلاقية؟ هذا هو السؤال.

والمعيار الأخلاقي الأول إنما يقول “لا تقتل مَنْ لا يحمل سلاحا، حتى ولو كان جنديا”. قتلُ من لا يحمل السلاح عملٌ جبان، وضيع ورخيص، بالمطلق.

يمكن للجهاد أن يوجد من دون إسلام. ولكن، لا يوجد إسلام من دون جهاد. وفي المسافة بين “الجهاد الأكبر” و”الجهاد الأصغر” فإن الأولويات أولويات، وهذه لا يقررها أصحاب “أضعف الإيمان”.

سوى أن الإسلامية الضحلة هي التي أضاعت الطريق، فهي عندما بررت للفساد بداعي الاقتصار على “الجهاد الأكبر”، إنما وفرت الذريعة لمن هم أكثر ضحالة لكي ينقلبوا بجهادهم فيكون جريمة عارية ضد الأبرياء من الناس.

لم تفعل جماعات الجهاد الإسلامي في فلسطين إلا هذا في الواقع. تركوا جنود الاحتلال وصاروا يفجرون حافلات الركاب أو المقاهي، حتى شوّهت المقصد كله، وتحولت القضية الفلسطينية إلى إرهاب، ووفرت الأدوات للاحتلال لكي يعيد بناء القصة.

الجهاد “الأكبر” قيم وأخلاق. و”الأصغر” مثله تماما. سوى أن جماعات الإرهاب عندنا ضيّعت الاثنين عندما ضيّعت القيم والأخلاق لتحل محلها الوحشية والعنف الأعمى.

داعش والقاعدة كانا هما ثمرة ذلك الضياع. أطلقا على جرائمهما تسمية “الجهاد”، فتوفر للظالمين المبرر لكي يعيدوا بناء “القصة” ضد الإسلام.

وخسارة “القصة” لا تعني بقاء الظلم فحسب. إنها تعني خسارة كل شيء. حتى صار من الأولى بالمحتلين والغزاة، أن يقولوا “شكرا” لأهل هذا “الجهاد”، كبيره وصغيره على حد سواء.

9