عندما تفقد تونس جبهتها الشعبية

اليسار سيخسر من تفتت الجبهة الشعبية، تجربة ومدونة، بيد أنّ تونس ستخسر أكثر من خسارة اليسار؛ أبعادا ومشاريع ورؤى ومقاربات للإنسان والكيان.
الثلاثاء 2019/06/18
خسارة اليسار

المؤسف والخطير في مشهد النزاع السياسي المتصاعد بين رفاق الجبهة الشعبية التونسية، متمثل في عدم وجود إرادة لإدارة الصراع وتطويقه، فلئن كان من الطبيعي أن تتسرّب الخلافات إلى التكتلات السياسية والحزبية، فليس من العادي أن يتطور النزاع إلى حروب بيانات ومكاسرات كلامية تؤشر إلى وجود انشقاق هيكلي وبنيوي حاد صلب الجبهة اليسارية.

الواضح أن الجبهة الشعبية تعيش أزمة زعاماتية بين وجهين سياسيين معتبرين في الساحة التونسية، يرى كل واحد منهما أنه الأجدر بتمثيل اليسار في الانتخابات الرئاسية القادمة، ومن الواضح أيضا أن الأزمة وجدت بيئة للانسحاب على ميكانيزمات العمل المشترك بين رفاق الأمس وفرقاء اليوم.

المُفارقة الكبرى التي عرفتها وتعرفها المنظمات اليسارية متمثلة في أن التنظيرات اليسارية المبنية على الجدل الطبقي وعلى قدرة طبقة البروليتاريا باعتبارها الجامعة لأحلام الفقراء والمهمشين والعمال والفلاحين على استحثاث الثورة ضد الطبقة البرجوازية، تجد نفسها على أرض الواقع تعاني لا من طبقة برجوازية، بل من طبقة قيادية للأحزاب اليسارية تعاني من أمراض الزعاماتية.

فالزعاماتية الفارغة هي التي ضربت في العمق الجبهة الشعبية الفلسطينية، عنوان الماركسيين العرب، ونفسها أيضا منعت الحركة اليسارية اللاتينية من الاجتماع بين شي غيفارا وكاسترو، وهي أيضا منعت الامتداد الطبيعي لتطور حركة البعث بين سوريا والعراق، وهي اليوم تحول دون أن تكون لتونس جبهة يسارية قادرة على إحداث التوازن في مستوى الخطاب وطرح المشاريع حيال ليبرالية غير اجتماعية أو شعبوية متطرفة باتت تنسحب بشكل خطير على المشهد السياسي التونسي.

المشهد السياسي والمدني التونسي هو الخاسر الحقيقي من تفتت الجبهة الشعبية، فلا ديمقراطية دون يسار اجتماعي قوي قادر على فرض الطابع التضامني والتكافلي على السياسات اليمينية للأحزاب الحاكمة، ولا ليبرالية سياسية دون يسار إنساني يحول دون تحول الدولة بفرط اقتصاد السوق إلى نموذج ما بعد الليبرالية حيث تستحيل إلى مجرّد إدارة في مُقابل تضخم رؤوس الأموال والشركات الكبرى والمؤسسات متعددة الجنسيات.

صحيح أنّ هذا الدور الاجتماعي يتقاسمه في تونس، الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة، والجبهة الشعبية من جهة ثانية، وصحيح أيضا أنّ الدور المجتمعي للمنظمة النقابية معتبر ومؤثر في المشهد الحالي، ولكن الصحيح أيضا أن الجبهة الشعبية مارست الأدوار التعديلية بشكلها الإجرائي المُباشر في دوائر اتخاذ القرار ونعني بها اللجان البرلمانية، وفي أكثر من مرة كانت بصمتها واضحة في توجيه مشاريع القرارات إلى الأفق الاجتماعي.

حملت انتخابات 2014، بذور نشأة جبهة وتكتل سياسي يساريّ فريد من نوعه في الوطن العربي. تكتّل يجمع بين القوميين من جهة، واليساريين بمختلف مشاربهم المعروفة من جهة ثانية، ولئن غابت هذه العناوين عن فكر الناخب التونسي إبان الاستحقاق التشريعي فإنّ الفكرة المركزية تمثلت في سحب البساط عن التيارات الشعبوية أولا، والخروج من التصوّر الضدي التناقضي حيث حصر الخيارات بين النهضة والنداء ثانيا.

ولئن جاز الحديث عن ذكاء انتخابي، فإنه متمثل في توجّه جزء من الخزان الاقتراعي إلى الروافد الاجتماعية في الديمقراطيات، وعدم القبول بلعبة تبادل الأدوار بين اليمين المحافظ واليمين الحداثيّ، فكلاهما يروج لذات النموذج الاقتصادي المتوحّش.

فمن الصعب على اليمين أن يصير اجتماعيا إلا إذا غير من بوصلته ومقاربته، ذلك أنّ الليبرالية المالية والسياسية صنوان لا ينفكّان، في حين أنه من الأيسر على اليسار أن يكون ديمقراطيا اجتماعيا، ذلك أن البعد الاجتماعي فيه أصيل غير دخيل والديمقراطية الحقة تُبنى على دمج الهوامش والأقليات صلب المركز، وليس التموقع حوله.

فالسياسات الرسمية الليبرالية التي يبدو أنها باتت تمثل الخيط الناظم لمختلف الفاعلين الحزبيين التونسيين، من استهداف ممنهج للمؤسسات التضامنية ممثلة في صناديق التضامن الاجتماعي، وضرب للشرائح الضعيفة على غرار المتقاعدين، واستقالة من أدوار التشغيل صلب الإدارة العمومية، واستعداد للتفريط في المؤسسات الحكوميّة، كلها مؤشرات تفرض البحث على الطرف المؤثر القادر على فرض رؤاه التكافلية على الحكومة.

فالبُعد التضامني مُقاربة كلية تنسحب على كافة مفاصل المشروع السياسي لمترشح اليوم وحاكم الغد، وليست صورا دعائية ومقاطع فيديو تستثمر في بؤس الفقراء وتعاستهم وتوظف دموعهم وآلامهم في سبيل الوصول إلى كرسي الرئاسة. هُنا لا فرق بين من يتاجر بدين الله من أجل السلطة، ومن يتاجر بديون الناس في سبيل المنصب.

عندما يخفت صوت الجبهة الشعبية لن نتعجب من اصطياد بعض قطاع طرق الانتخابات لبعض العناوين الاجتماعية وتحويلها إلى شعارات انتخابية مثمرة في سوق اقتراعية يبدو أن كلّ التجارة فيها مستساغة ومباحة، حتّى تجارة امتهان كرامة النّاس.

اليسار سيخسر من تفتت الجبهة الشعبية، تجربة ومدونة، بيد أنّ تونس ستخسر أكثر من خسارة اليسار؛ أبعادا ومشاريع ورؤى ومقاربات للإنسان والكيان.

9