عندما تتعولم القضية الفلسطينية

شكّلت تسع دول، مساء الجمعة 31 يناير الماضي، تحالفًا باسم "مجموعة لاهاي"، بهدف العمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطين، ودعم حقّ شعبها في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة. وجرى إعلان تأسيس المجموعة خلال مؤتمر عُقد بمدينة لاهاي في هولندا، وفق بيان صادر عن ممثلي الدول التسع، وهي جنوب أفريقيا وماليزيا وكولومبيا وكوبا وهندوراس وناميبيا والسنغال وجزر بليز.
لا خلاف على صدقية هذه الدول التي تطالب وتدافع عن حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. فهذه الدول لها تاريخ من المعاناة مع ما كان يُعرف بدول الاستعمار السابقة. حيث خاضت شعوبها مسارًا طويلًا من النضالات المستمرة من أجل نيل حريتها، من الدول الأوروبية التي كوّنت لها إمبراطوريات خارج حدودها.
أغلبية دول “مجموعة لاهاي” تعمل من أجل إيجاد حلّ عادل للقضية الفلسطينية، لهذا لم تتردّد، على سبيل المثال، جنوب أفريقيا في رفع دعوى بحقّ إسرائيل لارتكابها جرائم حربٍ في غزة. إلا أنّ هناك بعض المتابعين يجدون أن الموقف الكولومبي والكوبي قد يدخل في بازار الدول التي تجد في القضية الفلسطينية فرصتها لممارسة المزيد من الضغوط على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لاعتبارات ترتبط بالخلافات المستجدّة بينهم.
◙ الاهتمام بالقضية الفلسطينية لا يتوقّف عند الغربي والدولي، بل تجد بعض الدول العربية فيها ممرّا للعودة إلى ساحة التأثيرات في العالم العربي
إنّ عودة كوبا على اللوائح الأميركية للدول “الراعية للإرهاب”، بحسب ما تمّ التوقيع عليه من قبل ترامب من أمر تنفيذي، بعدما كان الرئيس السابق جو بايدن، قد قرّر في نهاية ولايته رفع كوبا من هذه القائمة، دفع بالرئيس الكوبي دياز كانيل، لاعتبار أن هذا القرار يندرج باستمرار الحرب الاقتصادية الوحشية ضدّ بلاده ليثبت الهيمنة عليها.
ولكن أبعد من الهيمنة على الاقتصاد الكوبي، يعتبر ترامب أنه يصيب في هذا القرار داعمي كوبا وعلى رأسهم الصين، التي استفزها هذا القرار، فأعلنت على لسان المتحدثة باسم خارجيتها، ماو نينغ، إن “هذه الخطوة أظهرت السمعة السيئة للقوائم أحادية الجانب وآليات التنفيذ الأميركية“.
كما كوبا كذلك كولومبيا التي دخلت في نزاع دبلوماسي مع واشنطن وكاد يتطوّر إلى مقاطعة مع التهديد بفرض عقوبات، بعدما دخل قرار أميركي حيّز التنفيذ بترحيل الأجانب غير الشرعيين الكولومبيين إلى بلادهم؛ إذ اعتبر الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو أن الطريقة التي يتعاطى بها الأميركي في ترحيل شعبه هي طريقة مذلّة ومهينة، لهذا كتب على وسائل التواصل إن “المهاجر ليس مجرمًا بل هو إنسان يريد أن يعمل ويتطوّر ويعيش حياة كريمة“.
أعاد طوفان الأقصى، الذي نفّذته حركة حماس، في 7 أكتوبر من عام 2023، القضية الفلسطينية إلى الواجهة، لاسيما بعد اشتعال الساحات بموجة من المظاهرات المندّدة بالهمجية الإسرائيلية بحقّ سكان غزة. فكما كلّ قضية تتعولم، تبدأ الدول بإعادة تموضعها، فيعمد بعضها إلى الاستثمار فيها لتحقيق مكاسب، فينتقل الصراع “من أجل القضية” عند بعض الدول إلى صراع “على القضية” لأجل مصالحها.
توقّف الكثيرون عند الموقف الروسي من القضية، تحديدًا بعد قرار ترامب “تهجير الفلسطينيين” إلى مصر والأردن، وما قالته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا من أن قطاع غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية “أجزاء لا تتجزأ من أراضي الدولة الفلسطينية“.
موقف متقدّم من الجانب الروسي، والذي يجد فيه البعض أنه إلى جانب حلّ القضية على أساس الدولتين، إلا أنّ الصراع الروسي – الغربي في شرق أوروبا، قد يعطي لهذا الموقف أبعادًا جيوسياسية ترتبط بممارسة روسيا نوعًا من الابتزاز السياسي على إدارة ترامب، في ما يخصّ الدعوة إلى ضرورة وقف الحرب في أوكرانيا على قاعدة حفظ مكاسب روسيا ومراعاة هواجسها من المدّ العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) على حدودها، الذي يشكّل تهديدًا لأمنها القومي.
لا تستطيع روسيا إلا أن تتّخذ موقفًا رافضًا للتهجير القسري، لأنّ هذا القرار يدخل في خانة عرقلة ترتيب المنطقة التي رسمتها إدارة ترامب الأولى، والتي لا تلحظ مصالح روسيا فيها، بل جلّ ما تعمل عليه هو تكريس نفوذها بالتعاون مع دول الجوار وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. لهذا تجد روسيا أن المحافظة على الـ”ستاتيكو” القائم يخدم وجودها، رغم التغيير المفاجئ في سوريا وسقوط أحد أركان حلفائها في المنطقة وهو نظام بشار الأسد.
إن الموضوع لا يتعلّق بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني بقدر ما يرتبط بضبط التوازنات الإقليمية والدولية بالنسبة إلى موسكو. لهذا سارعت موسكو إلى تمتين علاقتها مع طهران من خلال توقيعها على اتفاقية الشراكة الكاملة، وبدأت تنفيذ بنود الشراكة لاسيما المرتبطة بالشأن العسكري، حيث زوّدت إيران أحدث طائراتها القتالية من نوع سوخوي – 35، في دلالة على كسر معادلة الاحتكار العسكري المتفوّق لصالح إسرائيل.
◙ طوفان الأقصى أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة لاسيما بعد اشتعال الساحات بموجة من المظاهرات المندّدة بالهمجية الإسرائيلية بحقّ سكان غزة
تريد موسكو ممارسة البازار السياسي في القضية، كيف لا وقد خرج الإعلام الإسرائيلي ليتحدّث عن إرسال أسلحة سوفييتية صادرها الجيش الإسرائيلي في حربه على غزة وجنوب لبنان إلى أوكرانيا. هذا ما أثار حفيظة موسكو، التي وجّهت اعتراضًا واضحًا لحكومة بنيامين نتنياهو، معتبرةً أنّ هكذا خطوة تضع إسرائيل في تصنيف “الدول غير الصديقة” لموسكو، ويترتّب على موسكو اتّخاذ إجراءات وقائية وعدائية بحقّها.
تشظّت القضية الفلسطينية مع دخولها العالمية، فأصبحت كما سائر القضايا التي “تتعولم” ويصبح لها من المؤيدين ما يساوي المعارضين، كما وتجد من يدخلها في أجندات المزايدات لأجل التوظيف لمصالح ضيقة تكون في أغلب الأحيان بعيدة كلّ البعد عن جوهر مضمونها الرئيسي.
لا يتوقّف الاهتمام بهذه القضية عند الغربي والدولي، بل تجد أيضًا بعض الدول العربية فيها ممرًّا للعودة إلى ساحة التأثيرات في العالم العربي. فالمملكة العربية السعودية اليوم، مع ما يحصل في المنطقة من “خربطات” في خارطة التأثيرات والنفوذ، وجدت أنها فرصتها لتعيد مكانة ما كانت عليه قبل دخول طهران على خطّ توسيع النفوذ في المنطقة. لهذا رفع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان شعار “التطبيع مقابل إقامة الدولة الفلسطينية،” فوضع إدارة ترامب في مأزق حقيقي، وهي التي تسارع الخطوات من أجل إعادة اللحمة إلى علاقاتها بالمملكة بعدما شهدت هذه العلاقة خضات في عهد الرئيس الأسبق جو بايدن.
إن تمّ تحييد دولة قطر، ودورها الحقيقي المساند للقضية بكل شفافية ووضوح، والعمل من أجل التوصّل إلى إعطاء الشعب الفلسطيني حقّه في دولة والعيش حياة كريمة، نجد أنّ أغلبية الدول الأخرى التي تبنّت القضية تدور في فلك الاستثمار السياسي والاقتصادي أو حتى المعنوي في منطقة تعيش على مرحلة مخاض ما قبل الولادة.