عندما تتحول صناديق الاقتراع إلى سلاح بيد الفاشيين

ما نشهده ليس مجرد أزمة ديمقراطية بل ولادة نسخة جديدة من الفاشية لا تعتمد على الدبابات بل على التكنولوجيا والخطاب القومي المتطرف.
السبت 2025/03/29
الفاشية الجديدة ليست قادمة.. هي هنا بالفعل

لأكثر من سبعة عقود، ظلّت الديمقراطية الغربية تقدم نفسها كذروة التطور السياسي والضمانة الأهم للحريات والحقوق. لكنها اليوم تنهار من الداخل، ليس بسبب غزو خارجي، ولا بفعل ثورات شعبية، بل عبر تحول بطيء ومدروس يعيد إنتاج الأنظمة السلطوية تحت مظلة الشرعية الانتخابية.

فما نشهده ليس مجرد “أزمة ديمقراطية”، بل ولادة نسخة جديدة من الفاشية، أكثر تعقيداً، وأكثر ذكاءً، لا تعتمد على الدبابات والانقلابات، بل على التكنولوجيا، والخطاب القومي المتطرف، والسيطرة غير المباشرة على الإعلام والرأي العام.

لم تعد الديمقراطية الغربية قادرة على إخفاء تناقضاتها. فالشعارات التي بُنيت عليها – مثل التعددية، وحرية التعبير، وسيادة القانون- باتت اليوم تُستخدم كأدوات لترسيخ سيطرة النخب على الشعوب. ففي فرنسا، تتحول العنصرية إلى سياسة دولة. وفي ألمانيا، ينهض شبح النازية من جديد. وفي إيطاليا، الفاشية لم تعد تاريخاً بل أصبحت واقعاً سياسياً رسمياً. وفي الولايات المتحدة، الديمقراطية نفسها على وشك الانهيار تحت وطأة التلاعب السياسي والتكنولوجيا القمعية. وفي كندا، تُستخدم أدوات مالية لخنق المعارضة في سابقة لم يكن أحد يتخيل حدوثها في “العالم الحر”.

ما يجري ليس مجرد موجة يمينية عابرة، بل إعادة تشكيل عميقة للنظام الغربي نفسه، حيث يتم الحفاظ على الشكل الديمقراطي، بينما تُفرَّغ الديمقراطية من مضمونها، تماماً كما حدث في الأنظمة الفاشية الأولى في القرن العشرين.

ولطالما قدمت فرنسا نفسها على أنها مهد الحريات والديمقراطية، لكنها اليوم تتحول بسرعة إلى دولة يحكمها الخطاب القومي المتطرف. فحزب “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان لم يعد مجرد لاعب سياسي هامشي، بل بات يقترب أكثر من قصر الإليزيه، محولاً العنصرية وكراهية المهاجرين إلى سياسات دولة.

لم تعد الديمقراطية الغربية قادرة على إخفاء تناقضاتها. فالشعارات التي بُنيت عليها – مثل التعددية، وحرية التعبير، وسيادة القانون- باتت اليوم تُستخدم كأدوات لترسيخ سيطرة النخب على الشعوب

الظاهرة ليست جديدة، لكنها وصلت الآن إلى نقطة اللاعودة. فالحكومة الفرنسية، التي يفترض بها أن تكون حامية للقيم الديمقراطية، أصبحت تتبنى سياسات لا تختلف كثيراً عن سياسات اليمين المتطرف نفسه، من قوانين “”مكافحة الإسلامية”، إلى تقييد حقوق المهاجرين، إلى رقابة صارمة على وسائل الإعلام التي لا تسير وفق الخط العام.

ففي الماضي، كانت الديمقراطية تعني تمثيل الجميع، أما اليوم، فهي تعني إقصاء فئات بأكملها تحت ذريعة حماية الهوية الوطنية.

ألمانيا التي حاربت النازية لعقود، تشهد اليوم عودة قوية لليمين المتطرف ممثلاً بحزب “البديل لأجل ألمانيا”. فالحزب، الذي بدأ كحركة احتجاجية ضد سياسات الهجرة، تحول الآن إلى قوة سياسية خطيرة تهدد بنسف الديمقراطية من الداخل.

المقلق في الحالة الألمانية ليس فقط صعود حزب قومي متطرف، بل أن أفكاره باتت تجد طريقها إلى سياسات الأحزاب الكبرى نفسها، تماماً كما حدث في ثلاثينات القرن الماضي حين بدأت الأحزاب التقليدية بتبني خطاب النازيين لكسب أصوات الجماهير، قبل أن تجد نفسها خارجة من اللعبة تماماً.

ألمانيا اليوم لم تعد مهددة فقط بتقدم “البديل لأجل ألمانيا”، بل بتحول النظام السياسي بأكمله إلى نسخة جديدة من الحكم الاستبدادي، حيث يتم إخفاء القمع وراء قوانين تحظر “التطرف” بينما يتم استخدام هذه القوانين لإسكات المعارضين السياسيين.

في إيطاليا، لم يعد الحديث عن الفاشية مجرد أمر نظري. فجورجيا ميلوني، زعيمة حزب “إخوة إيطاليا”، هي اليوم رئيسة الحكومة، وهي التي لم تخفِ يوماً إعجابها بموسوليني، بل أعادت استخدام بعض شعاراته.

والفرق بين إيطاليا اليوم وإيطاليا الثلاثينات هو أن الفاشية لم تعد تأتي بانقلاب عسكري، بل تأتي عبر صناديق الاقتراع، حيث يتم استخدام النظام الديمقراطي نفسه كأداة لإنتاج الحكم السلطوي.

ميلوني وأمثالها لا يحتاجون إلى إلغاء الانتخابات، لأنهم أدركوا أن الجماهير نفسها باتت تطالب بالحكم القوي، بعد أن فقدت الثقة في النخب التقليدية. الفاشية اليوم ليست في مواجهة الديمقراطية، بل تتغلغل داخلها، وتعيد تشكيلها من الداخل.

لقد انتهى عصر الديمقراطية الغربية كما نعرفه.. والسؤال الوحيد الآن، ما الذي سيأتي بعده؟

فالولايات المتحدة لم تعد النموذج الديمقراطي الذي طالما قدم نفسه للعالم. أزمة الانتخابات، واقتحام الكابيتول، والانقسامات العميقة، ليست سوى مؤشرات على أن النظام الأميركي نفسه يتداعى.

الأمر لا يتعلق فقط بدونالد ترامب أو الديمقراطيين، بل بأن النظام السياسي الأميركي أصبح أداة بيد الشركات الكبرى، التي تتحكم في الإعلام، والتكنولوجيا، وحتى في تشكيل الرأي العام.

وسائل التواصل الاجتماعي، التي يفترض أنها مساحة لحرية التعبير، أصبحت أداة رقابة ضخمة، حيث يتم التحكم في ما يمكن قوله وما لا يمكن، في مشهد يذكرنا بالأنظمة القمعية التي لطالما هاجمتها الولايات المتحدة نفسها.

كندا، التي كانت تُعتبر نموذجاً للديمقراطية الهادئة، كشفت عن وجه آخر تماماً خلال أزمة احتجاجات سائقي الشاحنات. رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو لم يواجه المحتجين بالحوار، بل قام بتجميد حساباتهم المصرفية، في خطوة غير مسبوقة حتى في أكثر الأنظمة القمعية تطرفاً.

الفضيحة السياسية التي أثارتها هذه الخطوة كانت من بين الأسباب التي أدت لاحقًا إلى تراجع شعبية ترودو واستقالته، حيث فقدت حكومته شرعيتها في نظر جزء كبير من المجتمع الكندي.

ما حدث في كندا يثبت أن القمع لم يعد يحتاج إلى الشرطة أو الجيش، بل يكفي أن تضغط الحكومة على زر واحد لتجعل أيّ معارض عاجزاً عن الحياة. هذه ليست مجرد حادثة منعزلة، بل نموذج جديد للقمع الرقمي الذي سيتم استخدامه مستقبلًا ضد أيّ معارضة سياسية.

العالم لا يشهد فقط أزمة ديمقراطية، بل يشهد تحولاً كاملاً في شكل الحكم الغربي. ولم يعد القمع يحتاج إلى أساليب تقليدية، بل بات يُمارس عبر الإعلام، والتكنولوجيا، والقوانين التي تبدو ديمقراطية في ظاهرها لكنها تحمل في داخلها بذور الاستبداد.

المشهد اليوم يذكرنا بما حدث في ثلاثينات القرن الماضي، حين تحولت الديمقراطيات إلى أنظمة شمولية واحدة تلو الأخرى. والفارق الوحيد هو أن الفاشية الجديدة ليست صريحة كما كانت في الماضي، بل ترتدي قناعاً أكثر تهذيباً، وأكثر قبولاً من الجماهير التي لم تدرك بعد أنها فقدت حريتها.

والسؤال الآن لم يعد “هل الديمقراطية في خطر؟” بل أصبح “هل الديمقراطية ما زالت موجودة أصلاً، أم أننا أصبحنا نعيش في عالم تُدار فيه الأنظمة بنفس منطق الفاشية، لكن بأدوات أكثر تطوراً؟”

لقد انتهى عصر الديمقراطية الغربية كما نعرفه.. والسؤال الوحيد الآن، ما الذي سيأتي بعده؟.

7