عملية تركيا العسكرية في سوريا: موافقة روسية ضمنية ولا ضغوط أميركية

مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قرب إطلاق عملية عسكرية في سوريا باتت المنطقة مقدمة على تغيير في التحالفات ومعادلات النفوذ، بما يضع توجهات أنقرة في المنطقة تحت اختبار جاد.
القامشلي (سوريا) - تحتاج العملية البرية التركية شمال سوريا إلى تفاهمات مسبقة مع كل من روسيا والولايات المتحدة، يقول مراقبون إن شقها المتعلق بموسكو قد تم فعلا، فيما لا تزال أنقرة بانتظار القرار الأميركي الذي يبدو أنه يتجه للسماح بعملية اجتياح تركي لشمال سوريا قد يكون مشروطا.
وقال قائد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة مظلوم عبدي الثلاثاء إنه لا يزال يخشى غزوا بريا تركيا، على الرغم من التأكيدات الأميركية، وطالب برسالة “أقوى” من واشنطن بعد رؤية تعزيزات تركية غير مسبوقة على الحدود.
وأكد عبدي أنه تلقى تأكيدات “واضحة” من كل من واشنطن وموسكو بأنهما تعارضان غزوا بريا تركيا، لكنه أوضح أنه يريد شيئا ملموسا أكثر لكبح أنقرة.
وتابع “ما زلنا قلقين. نحتاج إلى بيانات أقوى وأكثر صلابة لوقف تركيا… لقد أعلنت تركيا عن نيتها وهي تستطلع الآن الأمور. تتوقف بداية وقوع غزو على كيفية تحليلها لمواقف الدول الأخرى”.
وأكد مصدر مطلع أن تركيا تشترط لوقف عمليتها البرية في شمال سوريا، انسحاب قوات قسد ومؤسساتها كافة من مدن عين العرب ومنبج وتل رفعت في ريف حلب، وتسليم المنطقة إلى القوات الروسية، وعودة جيش النظام السوري إليها.
وقال المصدر لموقع “تلفزيون سوريا” إن الجنرال الروسي ألكساندر شايكو نقل المطالب التركية لقائد قسد مظلوم عبدي خلال اجتماع في القامشلي، مضيفا أن “العرض الروسي لقسد هو الأخير ولن تستطع روسيا وقف الهجوم في حال بدء العملية التركية”.
ويرى الباحث في مركز “جسور للدراسات” فراس فحام أن قسد أمام خيارات ضيقة، تتمثل في مواجهة عمليات عسكرية تركية برية أو مغادرة الشريط الحدودي مع تركيا بعمق 30 كيلومترا، وخسارة التمدد الجغرافي الذي حققته بين عامي 2015 و2019.
واعتبر فحام أن قسد ستواجه موجة جديدة من الضغط التي قد تفقدها المزيد من الجغرافيا، أو إحداث تغييرات حقيقية في بنية “الإدارة الذاتية” وفق التفاهمات التركية – الأميركية، “التي على الأرجح لن تعترض عليها موسكو كونها ستسهم في تفكيك الإدارة الذاتية”.
وأكد الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن أن العملية العسكرية التركية البرية في شمال سوريا قد تبدأ في أي وقت، لافتا إلى أن ذلك يعتمد على تقييم المراجع المعنية في تركيا.
وقال كالن في تصريحات صحافية الثلاثاء إن أنقرة تطالب بأن تكون “وحدات حماية الشعب” الكردية، المكون الأساسي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، في مناطق تبعد 30 كيلومترا عن الحدود التركية، وبأن تتوقف عن محاولة التسلل إلى تركيا.
وأشار المسؤول التركي إلى أن قوات بلاده لم تستهدف حتى الآن أي جنود تابعين للولايات المتحدة أو روسيا “وهذا ليس من ضمن أهدافها، وهدفها الوحيد هو وحدات حماية الشعب الكردية الموجودة في شمال سوريا”.
ولفت كالن إلى أن تركيا نسقت إجراءاتها مع موسكو خلال العملية الجوية شمالي سوريا والعراق.
وتشير مصادر تركية إلى أن العملية العسكرية التركية الجديدة في شمال سوريا ستكون عبر مراحل، الأولى منها قد تبدأ خلال أيام وتشمل منطقة تل رفعت، والمراحل التالية لاحقا تشمل مدينتي عين العرب ومنبج.
وقالت المصادر إن قوات النظام السوري قد تنسحب من هذه المنطقة في حال استكمال التفاهمات التركية – الروسية حول تل رفعت.
وتعكس لهجة المسؤولين الأتراك الرغبة في انتهاز الفرص السانحة والمتغيرات على الساحتين الإقليمية والدولية، فضلا عن السبق لملء فراغ قوى انشغلت بما تعتبره أولوية مثل حاجة موسكو إلى حسم الصراع في أوكرانيا.
قسد أمام خيارات ضيقة، إما مواجهة عمليات عسكرية برية، أو مغادرة الشريط الحدودي مع تركيا بعمق 30 كيلومترا
وكان السيناريو المفترض حدوثه هو أن تجري تهيئة حلفاء الولايات المتحدة الأميركية (قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب) لإجراء ترتيبات مع حكومة دمشق، تحضيرا لانسحاب أميركي شامل على المدى المنظور خلال خمس أو عشر سنوات.
والواضح أن تغيير النظام السوري بات صعبا، علاوة على أن الأكراد أقل عددا وأضعف من أن يتمكنوا من الدفاع عن الشمال السوري، فالحل الوسط فتح أبواب التواصل والتنسيق بين الكيانات المسلحة الموالية للغرب المكونة من مقاتلين من أكراد وعرب وآشوريين ودمشقيين.
وحدث منذ العام 2019 وصولا إلى إعلان أنقرة الأخير عن إطلاق عمليتها العسكرية البرية في الشمال السوري، ما يشي بإمكانية تكرار تجربة أفغانستان في سوريا، حيث حدوث انسحاب الولايات المتحدة المفترض آجلا أو عاجلا من دون توفير الأمان لحلفائها الأكراد.
ولا يتعلق الأمر بترك الأكراد مكشوفين أمام خصمهم السوري ممثلا في نظام الرئيس بشار الأسد، بل بإفساح المجال لتركيا كي تطبّع هي مع حكومة دمشق على حساب مصالح ومكتسبات الأكراد.
واستبقت أنقرة الأحداث واحتلت مكان الأكراد في المعادلة السياسية، مراهنة على لعبة مصالح متبادلة مع روسيا التي تلعب دور عراب التقارب التركي – السوري.
وتعول أنقرة على تراجع قدرة الوجود العسكري الأميركي تدريجيا على صد الضغوط على الأكراد، حيث لن تظل واشنطن إلى الأبد في سوريا وسوف تضطر في نهاية المطاف إلى سحب قواتها.
وسبق وأن استغلت أنقرة بدايات التراجع الأميركي العسكري في سوريا عندما سحب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قوات بلاده من معظم أراضي قسد في أكتوبر 2019، ما دفع سوريا إلى شن عملية عسكرية في الشمال السوري.
لهجة المسؤولين الأتراك تعكس الرغبة في انتهاز الفرص السانحة والمتغيرات على الساحتين الإقليمية والدولية
وتعتزم تركيا الآن شن عملية جديدة في سياق واقع مختلف، حيث لن تتوانى روسيا، التي تقوم بدوريات في المناطق التي أخلتها الولايات المتحدة بدعوة من قوات سوريا الديمقراطية، عن عقد صفقة تحصل بموجبها على تسهيلات تركية في الحرب الأوكرانية مقابل منحها الضوء الأخضر للتوغل في الشمال السوري.
وترغب تركيا المحصورة في منطقة محدودة بين بلدتي رأس العين وتل أبيض الحدوديتين في التوسع عسكريا وسياسيا في الملف السوري، لذلك تستغل الأوضاع الحالية واضطرار روسيا إلى سحب جزء من قواتها من سوريا بسبب حربها في أوكرانيا، لنزع منبج وتل رفعت من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
وتنشد روسيا بدورها تعاونا تركيا أكثر تطورا، علاوة على حرصها على بقاء نظام الرئيس السوري قويا وألا يتأثر الأسد بالتراجع العسكري الروسي في سوريا.
ويتطلب ذلك ضرورة إجراء تسوية تنهي الحرب وتفرض مصالحة بين أنقرة ودمشق مقابل الانسحاب الروسي، كإشارة على إعطاء الضوء الأخضر لتوغل تركي واسع النطاق.
وبعد ثلاث عمليات عسكرية شنتها تركيا في سوريا منذ 2016 حتى 2019، سيطرت تركيا والفصائل المسلحة التي تدعمها على مناطق في شمال غربي سوريا مثل مدن جرابلس والباب وإعزاز وعفرين.
واستعدت الفصائل المسلحة الموالية لتركيا للعملية العسكرية الجديدة بهدف الهيمنة على مناطق منبج وعين العرب (كوباني) وتل رفعت، لربط المناطق التي دخلت تحت سيطرة تركيا وحلفائها بالمناطق التي تمت السيطرة عليها خلال توغلات عام 2016.
وسمحت تركيا مؤخرا للفصيل المسلح الرئيسي الموالي لها وهو هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) بإنهاء حالة التشرذم الفصائلي والفلتان الأمني، عبر خوض معارك ضد العديد من المجموعات المسلحة، بهدف ضبط المناطق الخاضعة لسيطرتها وتوحيد جبهة التمرد خلف كيان قوي بقيادة وإدارة مشتركة.

وتصدير هيئة تحرير الشام ككيان وحيد يملك تشكيلا عسكريا قويا ويتمتع ببنية أمنية وإدارية صلبة، كفيل باحتواء الغضب الشعبي في المناطق التي تشرف عليها أنقرة شمالي سوريا، وضامن لتقوية موقف أنقرة خلال المحادثات والمفاوضات المرتقبة مع الحكومة السورية.
ولم يكن التفاوض مع حكومة دمشق لينجح في ظل ما كان قائما من فوضى وتناحر فصائلي بين مجموعات فاشلة وفاسدة تدعمها أنقرة، ولذا حرصت تركيا بالتعاون مع هيئة تحرير الشام على جعل ما يعرف بالمعارضة المسلحة كتلة متجانسة، تمتلك الحد المقبول من الخبرات الإدارية والسياسية.
وتتجه العملية العسكرية التي تم الإعلان عنها مؤخرا إلى المزيد من الإمساك بزمام الأمور في الشمال السوري بضم مناطق إستراتيجية جديدة لا يزال يسيطر عليها الأكراد، ووضعها تحت سيطرة فصيل مسلح لا تنازعه فصائل أخرى في إدارة الملفات الأمنية والعسكرية والملف المعيشي والاقتصادي.
وتعزز السيطرة على المزيد من المناطق والمعابر السطوة الاقتصادية لدى هيئة تحرير الشام، مع ضمان نقل تجربتها في الإدارة المدنية عبر حكومة الإنقاذ إلى المناطق الجديدة المزمع الاستيلاء عليها.
وشكلت تحركات الفصيل المسلح الرئيسي الموالي لتركيا في الشمال السوري مؤخرا وما سيليه من توغل عسكري تركي في عمق الشمال السوري، ملامح المقاربة التركية الجديدة في التعاطي مع الملف السوري.

وتمهد أنقرة لعودة اللاجئين السوريين عبر فرض الاستقرار بالمنطقة، وبسط الهيمنة الشاملة على الشمال السوري لجعله ورقة رابحة خلال التسويات المقبلة.
ويتوافق إنهاء سيطرة الأكراد وفرض الإدارة الموحدة لمناطق المعارضة مع خطط أردوغان الرامية إلى الاستمرار في الحكم لفترة رئاسية ثالثة، وهو ما لن يتحقق دون حل لملف اللاجئين السوريين، عبر إعادة مئات الآلاف منهم إلى بلدهم.
ولن تضر العملية التركية بمصالح الأكراد وحدهم، حسب مراقبين، بل قبل ذلك بالمصالح الإستراتيجية الأميركية، من جهة تشكل معادلة جديدة تزيح نفوذ واشنطن من المشهد السوري، فضلا عن العصف بشراكتها مع قوات سوريا الديمقراطية التي كان لها الفضل الأول في هزيمة داعش عام 2014.
والعائق العملي الوحيد الذي يحول دون خلط تركيا الأوراق في الشمال السوري هو استئناف الولايات المتحدة الدوريات العسكرية في المناطق التي تخليها القوات الروسية.
وتشترك مناطق النفوذ الثلاث في حدود مشتركة، وتقوم القوات الأميركية والروسية بدوريات في أجزاء مختلفة من الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية.
ويؤكد مراقبون أن أي توغل عسكري تركي لن يمر إلا من باب تفاهم خلفي وصفقة مع روسيا تقضي بانسحاب القوات الروسية من منبج وتل رفعت، وهو ما يلزم الولايات المتحدة باستئناف دورها كحامية لمناطق قوات سوريا الديمقراطية، وتدارك خطأ الانسحاب السابق عام 2019 وملء أي فراغ عسكري تتركه روسيا.
ويشير هؤلاء إلى أن بواسطة حوالي 900 جندي أميركي متمركزين في المنطقة المعروفة باسم المنطقة الأمنية لشرق سوريا، وعبر تزويد قسد بالقوات الإضافية والأسلحة الثقيلة ومضادات الدبابات وأنظمة الدفاع الجوي المحمولة، تستطيع الولايات المتحدة استعادة نفوذها وإفساد الصفقة التركية – الروسية المفترضة.