عمال الحضائر في تونس.. عاملون بلا عمل

مصطلح “الشبه شبه” الذي دأبت أقلام اليسار التونسي على إطلاقه في ثمانينات القرن الماضي، على كل ما هو عصي على التصنيف في أنماط الاقتصاد التونسي وقواه العاملة، لا يزال لغزا محيرا من حيث التوصيف، وبالتالي اتخاذ الإجراء اللازم حوله.
ومن هذه الحالات فئة عمال الحضائر الذين يباشرون العمل كجهد ونشاط بشري في كافة القطاعات والدوائر الحكومية وغيرها، لكنهم مقصيون من قانون الوظيفة العمومية من حيث الحقوق والامتيازات والضمانات الاجتماعية والصحية، وكذلك الرواتب التي تُعد مخزية ومهينة، ولا تكفي بضعة أيام قليلة لصرفها في الأساسيات بالنسبة إلى الفرد الواحد، فما بالك بصاحب أسرة ضمن أزمة معيشية خانقة.
العمل في الحضائر حل ترقيعي مؤقت كانت قد اقترحته الدولة التونسية لمجابهة شبح البطالة في انتظار فرص التشغيل وفق الحدود التي تسمح بها إمكانيات البلاد المتورطة أصلا في ضخامة كتلة الرواتب، والتي يستميت الاتحاد العام التونسي للشغل في التفاوض بشأنها مع الحكومة في علاقتها مع الجهات الدولية المانحة.
إيجاد الوضعيات الخاصة، وحالات "بين بين" من شأنه أن يراكم تفسيرات "الشبه شبه" التي تزيد الطين بلّة وتغوص بنا في التعقيدات
تفاقمت البطالة، وأصبح حتى العمل في الحضائر أمرا صعبا، فما بالك بوعود الانتداب والتشغيل التي أطلقتها الحكومات السابقة، وكأنها قد زينت الطريق إلى هؤلاء ثم تركتهم في حيرتهم مع الحكومة الحالية التي تحاول إيجاد الحلول العاجلة والناجعة في ظرف صعب، خصوصا أن المعارضة تريد تسييس الملف، والضغط على الرئيس.
ويذكر أن اتفاق 20 أكتوبر 2020 الممضى بين اتحاد الشغل والحكومة برئاسة هشام المشيشي، آنذاك، ينص على تسوية وضعية قرابة 31 ألف عامل حضيرة في المناطق الداخلية في القطاع الزراعي، وعلى دفعات.
ويحتوي هذا الاتفاق على ثلاثة عناوين كبرى، يشمل العنوان الأول من سنهم أقل من 45 سنة في حين يهم العنوان الثاني من هم فوق 45 سنة إلى حدود 55 سنة. أما العنوان الثالث فيخص فئة عمال الحضائر من هم فوق 55 سنة.
وأمام استحالة تطبيق هذه الوعود، تحركت أخيرا التنسيقيات المهتمة بوضعيات هذه الفئة المهمشة والمنسية، مهددة بتحركات احتجاجية ومتهمة الحكومة بالتملص من تنفيذ الوعود التي تم إعطاؤها لعمال الحضائر.
إنها بحق “هرسلة لعمال الحضائر الذين يمثلون عماد الإدارة التونسية في كل القطاعات”، حسب تعبير هنونة الماجري، إحدى الممثلات عن تنسيقيات عمال الحضائر. وأضافت زميلتها إيمان العزري أنّ مستشارا في رئاسة الحكومة أكد لممثلي هذه الفئة من العمال، خلال الاجتماع بهم، مؤخرا، أن فتح المنصة الإلكترونية لتحديد قائمة الراغبين في الترسيم (التثبيت) أو في الخروج الطوعي لن يتجاوز شهر أبريل على أقصى تقدير.
تفاقمت البطالة، وأصبح حتى العمل في الحضائر أمرا صعبا، فما بالك بوعود الانتداب والتشغيل التي أطلقتها الحكومات السابقة
كان هذان صوتين من النساء اللاتي يشاركن الرجل في الأزمة ويعملن معه جنبا إلى جنب وفق النموذج التونسي الذي يعني المرأة في الأزمة كما الرجل، الذي عبر عنه أحدهم بقوله “قبلنا بالتشغيل الهش وبرواتب لا تتعدى 351 دينارا تونسيا (نحو 125 دولارا أميركيا)، على أمل أن تسوّى أوضاعنا المهنية”، وأضاف بكل وجع “صبرنا على أزمة البلاد وظروفها الاقتصادية، لكنّنا فوجئنا بتنصّل الحكومة من وعودها ومن الاتفاق الذي أبرم بينها وبين اتحاد الشغل”.
أمام هذه الأزمة التي كانت في بداياتها حلا، وإن كان هشا، يطرح على الحكومة التونسية السؤال المحير، لا لتبرئتها من الأخطاء المتوارثة، وإنما لحسم المعضلة، وهو: أن عمال الحضائر في تونس ما انفكوا يذكروننا بقضيتهم في بيانات مستمرة لم تجد لها حلا، أوليس من الأجدر الإقرار بمساعدة بطالة أو منحة دعم إلى حين التشغيل، أسوة ببلدان كثيرة في العالم، بدلا من مشهد سوريالي يتلخص في حالة “عمال بلا عمل”؟
أليس من باب تجنب هذا الصداع حسم القضية بدل المماطلة والمكابرة. فإما عمال حقيقيون بكامل حقوقهم وإما عاطلون يتمتعون بمنحة مساعدة إلى أن يحظوا بفرصة عمل.
إيجاد الوضعيات الخاصة، وحالات “بين بين” من شأنه أن يراكم تفسيرات “الشبه شبه” التي تزيد الطين بلّة وتغوص بنا في التعقيدات.
ولقد واجهت شخصيا حكاية غريبة عجيبة حين قصدت يوما مؤسسة إعلامية عمومية طالبا العمل فيها، وحين قبلوا بي اشترطوا علي أمرا في غاية الغرابة، وهو أن آتيهم بورقة تثبت أني أعمل في مؤسسة أخرى، وذلك كي لا أطالبهم بالتثبيت، وما ينجر عنه من امتيازات كالراتب الذي يحدده قانون العمل، وكذلك الضمان الصحي والاجتماعي.