عمار بلحيمر وزير ينطق باسم سلطة غامضة

قبل دقائق من تولّيه منصب وزارة الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة عطّل عمار بلحيمر حسابه على موقع فيسبوك، في خطوة قد يجد لها المتتبع أعذارا ومبررات عندما يتعلق الأمر ببعض المسؤولين الكبار الذين لا تدخل في مهماتهم مثل هذه الوسائل. ولكن أن يقوم بالأمر وزير يفترض فيه التواصل وهو مقبل، كما بشّر في تصريحاته، على عمليات جراحية دقيقة تمس كل أنحاء جسد الإعلام وتطهره من الشوائب وتفتح ورشات لإصلاح قطاع مهلهل وضارب في تخمة البطالة والأعطاب فهذا ما لم يفهمه أحد.
فهل كان ذلك عن حسن نية كي لا ينشغل صاحب المعالي الجديد ويضيع وقته في عالم افتراضي كاسح متدفق بكل شيء زائف وحقيقي من هنا وهناك، أم أن الأمر لا يعدو كونه ناجماً عن أوامر عليا حفاظا على الأمن العام وغير ذلك من الأسرار والخفايا.
وزارة برؤوس كثيرة
عظّم الإعلام الجزائري في السنوات الأخيرة من شأن أمور قد تبدو للوهلة الأولى مهمة ومفيدة للصحة والبدن والعقل. واتضح في ما بعد أنها مساوئ وبلايا ومحن. وطفت على السطح فوضى عارمة تزخر بمواقع ومنصات وجرائد ووسائل أخرى معلومٌ أصحابها ومسيّروها وأخرى مجهولة المكان والهوية والنبرة. احتلت أسماء المشهد واحتكرت الصوت والصورة وسكنت العقول وتفسخت فيها، أسماء انتفخت وغدت كالفطر السام تبث الخرافة والوشاية، سلاحها التشهير والابتزاز والتحايل. أسماء أصبحت ملاجئ لتصفية الحسابات وتدمير العائلات وتحطيم مواثيق القيم والأخلاق حتى لم تعد تعرف هل هي من منابع هذا الوطن أم هي من أعدائه؟
الكل يقول إنه مالك للحق والحقيقة المطلقة الأبدية التي لا غبار عليها ولا كسوة. الجميع يتلاعب بالعقول البسيطة والنيات الحسنة والضمائر الأصيلة للإنسان المنهك بثقل الحياة الصعبة التي يعشيها المعدمة والبسيطة في خطوطها ومآلاتها.
بقيت السلطة تراقب وتهادن وتغضّ الطرف عمّا يفعل بالرأي العام من طرف وسائل الإعلام، بل ساهمت في تتفيه الأمور وتركها على حالها راحةً لضميرها القلق والمضطرب والخائف من مصير الآتي العاصف الذي قد يحدث وقد حدث بالفعل عندما خرج الشارع عن الأطر وانتفض ضد الكل.
ليس الإعلام في الجزائر سوى واجهة لسلطة غامضة، منتفع ومرتبط بالإشهار الذي تقطّره هذه السلطة كيفما تريد وعلى من تريد.. هكذا يوصف الإعلام عادة وهكذا وضع نفسه رهين ملاّك القرار ونخب المال والساسة والعسكر، يرقص على دفوف الأمر والنهي والمصلحة والظرف.
تعدّدت الشخصيات التي مرت على الوزارة؛ التقليدي والمثير والمتبجّح والضعيف والسهل الممتنع، هناك من جاء من ساحة الصحافة والكتابة، ومن جاء من عش الإدارة والبيروقراطية المتفشية في الإعلام. هناك من نكّس أعلام حرية الإعلام، ومن أراد لها العلو والتحرر والانفلات من عقال الضغط والطاعة. بعضهم يعرف أين مكامن الخلل وحاول أن يرمّم ويصلح ويرتق، وهناك من تركها في غلال العمى والظلام. وفي كل الأحوال لم يقدر أحد على بناء صروح الرأي الحقيقي أو أن يسهم في التنوير وقيادة سفينة المجتمع المضطرب إلى برّ الأمان والاستقرار، أو حتى معالجة أنواء الإعلام التي يعرفها أصحاب المهنة ولا يعرفون أسبابها.
بلحيمر يمتلك حضورا إعلامياً طاغياً. وقد برز ذلك من خلال دوره كوسيط فعال في التواصل مع الرأي العام الغاضب، فهو يعرف خبايا التأثير، ومتى يمنح المعلومة ويحللها ويسبغ عليها قبولا مؤقتا فضفاضا
ينحدر الوزير الحالي للإعلام عمار بلحيمر المولود بتاريخ 1955 من منطقة الشمال القسنطيني، وهي منطقة عرفت بإحكامها القبضة الحديدية على دهاليز الإعلام ودواليبه في الجزائر، وعلى القدرة الهائلة لإعلامييها على الالتحام والتكتل فيما بينهم مهما كانت الظروف والمحن، وعلى خفوتهم الصامت في إدارة المؤسسات الإعلامية عمومية وخاصة.
ربما كانت نقطة الاختلاف الوحيدة التي يتميز بها الوزير عن غيره من هؤلاء الإعلاميين المعربين خاصة أنه ذو تكوين فرانكوفوني بشهادة معمقة في الحقوق والآداب وأستاذ للتعليم العالي، وكاتب تخصص فيما نشر من كتب في الاقتصاد والقانون السياسي والاستثمار حيث أشرف على مخبر أبحاث لهذا الأخير.
نشط أثناء الثمانينات في المرحلة السرية للحزب الشيوعي المعروف اختصارا بـ”الباكس” الذي كان يشرف عليه المناضل الراحل الهاشمي شريف قبل أن يسحبه من براثن الخفاء والنضالات المجهدة والأحلام الطوباوية الوزير الأسبق مولود حمروش أبو الإصلاحات والطامح الأبدي لمنصب رئيس الجمهورية المنتظر دوما إشارات عسكرية لذلك، رفقة عصبة من الإعلاميين مثل القاضي إحسان وعابد شارف وعبدو بيه، وكلهم كانوا من أشد دعاة اليسار.
وعندما نقول اليسار الجزائري فهذا يعني في الدليل والعرف؛ المنفعة والانتفاع. كان هدف حمروش خلق كتلة إعلامية صلبة مهمتها الأساسية الخفية هي ضرب غريمه الراحل قاصدي مرباح رئيس الحكومة آنذاك، ورسم صورة لهذا الأخير تشبه الغول الذي يريد أن يلتهم كل الذي أمامه، تمهيدا لتولي حمروش رئاسة الحكومة في منعطف تاريخي رهيب هز الجزائر، جراء تصاعد العنف وتمدد أجنحة الإرهاب في السماء والأرض وتوتر الصراعات والحروب والمناوشات بين موازين القوى والنفوذ داخل السلطة والنظام.
مهمات أولى برتبة وزير
استراح بلحيمر فترة طويلة في مؤسسة عمومية للإشهار كمدير للنشر، وهي مؤسسة كانت تهتم خاصة بتوزيع الإعلانات على الصحف والجرائد. وقد كانت إحدى أهم أذرع الجنرال توفيق السرية في التسلط وبسط النفوذ على وسائل الإعلام وكانت بمثابة العلبة السوداء لشراء ذمم رؤساء الصحف ومواقفهم على مختلف توجهاتها، ولعب الكولونيل المعروف فوزي دورا حاسما في ذلك بما أنه كان المسؤول عن مركز الاتصال والبث التابع لجهاز المخابرات آنذاك. دانت له الرقاب وتحركت حين كان يتّصل من هاتفه الأحمر بمكاتب مدراء الإعلام، آمرا بشن الحروب، معلومة المظهر وخفية الأهداف، ضد من تراه السلطة غير طيّع أو خارج عن ملّة الإجماع وناشز، وهي ممارسات كانت تبرز برأسها كلما اشتد التوتر في أعلى هرم السلطة.
كان مرور بلحيمر على هذا المؤسسة نفعياً بجدارة، فقد جعل منها إحدى أهم مؤسسات النشر في الجزائر، حيث أصدرت العديد من الأعمال في مختلف المجالات التاريخية والأدبية والسياسية وغيرها، وغدت من أقوى دور النشر، وغادرها وهي في قمة هذا النجاح، وبقي يتنقل بين مشاغل التدريس والبحث والكتابة، حتى تحرك الشارع يوم الـ22 من فبراير 2019 وحدث ما سمّي بالرفض القاطع للعهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة، ثورة بشّر بها البعض ووقف ضدها البعض، وتابعها البعض من صفحاتها الزرقاء وتفاعل معها مبشّرا ونذيرا. منهم من تفاءل ومنهم من تشاءم، ومنهم من أخذها على محمل الجد وذكّرته بأيام الثورات اليسارية الطامحة لتغيرات جديرة في بنية النظام والسلطة والحكم
وهو حال الوزير المناضل اليساري على الطريقة الجزائرية. حيث حلل وجادل وانتفض وقال ما قال في الحراك وتوابعه. ظهر مرات ومرات بين ظهراني المتظاهرين ثم اختفى كشبح.
نقطة الاختلاف الوحيدة التي يتميز بها بلحيمر عن غيره هي أنه ذو تكوين أكاديمي معمق في الحقوق والآداب، وكاتب تخصص في ما نشر من كتب في الاقتصاد والقانون السياسي والاستثمار
بقي الشارع منذ أن أفرد زواياه ومنعطفاته على روح الغضب والتمرد والسخط على ما حل بالبلد من نهب وفساد تجذر في صلب كل شيء بسبب ممارسات حكامه وسادته القابعين اليوم في السجون، انقسمت آراء الشارع بين من يرغب في أن يبقى عصيا وراديكاليا حتى ينتهي من النظام وكل ما يرمز إليه، وبين الهادئين الذين دخلوه حالمين ثم خرجوا منه بأقل الأضرار وأحسن المنافع كحال الوزير بلحيمر.
فضّل الاصطفاف مع الداعين للحوار والمشاورات علّها تنقذ الحال والأحوال، وهي مخرجات تمسّك بها العسكر، ووضع لها خارطة طريق انتهت بتأسيس سلطة قيل إنها حرة في لقاء من تشاء ومع من تشاء، تكفّل بلحيمر بشرح الممكن والمستحيل وما خفي واستتر من رغبات السلطة التي قال إنها ستكون بعيدة عن أيّ قرار حاسم سيتخذ وفيه مصلحة الجميع. فهم البعض، واستنكر البعض الآخر وتمرّد. كان بلحيمر يدرك هو وجماعته أن هناك خللا ما وسخطا ما في قلب الشارع وفي غيره من المواقع مما يتم الإعداد له من حلول يشترك فيها الطامع والطامح والمتردد والمنتظر، ومع ذلك واصل المهمة بكل ثقة واعتزاز، وظل يجود بتصريحات متفائلة بخصوص المهام المنوطة بهم، وهي ضمان الانفلات من التأزم والزجاجة المغلقة بالعناد المكابر الذي يسري في جنبات الشارع. تكلّم باللغتين العربية والفرنسية وكسر رأسه لإفهام من لم يفهم. سطّر الخطوط ورسم الحدود وفي النهاية انتهت المهمة في الوقت المحدد وعلى أحسن ما يرام واستراحت ضمائرهم وانتخب الشعب الجزائري رئيسا للجزائر يدعى عبدالمجيد تبون.
وعود خرافية
لم يفاجأ العديد من المتابعين أن مهمة بلحيمر لم تنته بل جزمت كل القراءات أنه سيكون وزيرا للإعلام لما أظهره من حضور طاغ في كل أطوار الحوار كوسيط فعال في التواصل مع الرأي العام الغاضب عبر وسائل الإعلام، فهو يعرف خبايا التأثير، ومتى يمنح المعلومة ويحللها ويسبغ عليها قبولا مؤقتا فضفاضا سريعا، ضف إلى ذلك أنه صديق وفيّ لكل الإعلاميين ومحترما في وسطهم، وهو أملهم في تصفية الجو التواصلي وتنقية الهواء الإعلامي، وإنصاف مظلوميهم خاصة أولئك الذين انقطعت عنهم منابع الإشهار لفترة طويلة مصدر القوت والعيال والحياة.
بمجرد أن وطئت قدماه أرض الوزارة وتعرّف على محيطها أحاط نفسه ببعض المستشارين الذين أخرجهم من ظلمات النسيان وقبوره؛ بعض أصدقائه من زمن النضال اليساري الذي لم يعد يقنع أحدا، وهم مستشارون بدوا للوهلة الأولى مفاجأة للوسط الإعلامي.
قام بلحيمر بزيارة خاطفة لدار الصحافة والتقى على عجل ببعض مدراء الصحف، ابتسم لهذا، وحيّا ذاك، ووعد هذا. فالصحافة التي وقف عليها ليست هي صحافة التسعينات التي خبر روحها وشقاءها وجوعها للحرية والنضج والاحترافية، وهي لم تكن لها في ذلك العهد الإمكانيات والوسائل. لم تكن هناك وسائط، ولا إنترنت، ولا فيسبوك، ولا غيرها من الوسائل. كان القلم يحفر في جسد الحقيقة والمعلومة، يحفر فيها تحت أزيز الرصاص ورائحة الدم ورعب الموت.
طبعا هو يدرك ما وصل إليه الإعلام في الجزائر من تدنّ وهبوط مدوّ في كل شيء، هبوط خلق مشكلة أخلاقية، بالأساس، حيث لم يعد أيّ شيء يردع الصحف في الذهاب إلى أقصى حالات الفضائح والتشهير والتلاعب وإخفاء الحقائق وعدم فسح المجال للرأي المختلف أو الذي لا يصبّ في خانة السلطة ومن والاها، وغدت عناوين كبريات الجرائد تشيد بالجريمة والمساوئ وقضايا النهب والسرقة والقتل وغيرها، ولا تكاد تستيقظ إلا على هذا النوع من الإعلام مكتوبا أو مسموعا أو مرئيا. وزاد من أعطاب الإعلام تحول العديد من مدراء الصحف إلى أثرياء ومبتزين ولاهثين وراء الإشهار ورجال المال، وفي خضم هذا غاب الصحافي البسيط، وأنهكت قواه.
في تصريحاته القليلة التي أدلى بها بعد تنصيبه بشّر بقفزات ستغير الواقع الإعلامي، حتى أنه وعد بالانتقال بالإعلام من النظام التماثلي إلى النظام الرقمي بحلول منتصف 2020، وهو حلم كبير وأسطوري وخرافي بالنظر إلى مشاكل أعمق تضرب القطاع تطرّق إليها كل الذين مروا على المبنى الفخم للوزارة.
عين الرئيس تبون الوزير محند السعيد مكلفا بالإعلام في الرئاسة، وعين بلحيمر وزيرا للإعلام مكلفا بالاتصال الحكومي. تعددت المناصب وانفرد الرئيس بلقاء إعلامي مع الصحافة غابت عنه الشخصيتان، وتلك حكاية أخرى.