علي عون ورقة تبون لتطهير سوق الدواء من اللوبيات

متاعب عون مع القضايا الملفقة والتحقيقات الكيدية عديدة، فقد تواصلت حتى زج به في السجن وقضى عامين خلف القضبان.
الثلاثاء 2022/09/13
من ضحية لمطاردات المافيا الجزائرية إلى وزير للصحة

حين اصطف في خندق عميدة المنتوجات الصيدلانية الحكومية، وظل يقاوم من أجل إنقاذ المؤسسة الحيوية في البلاد من سطوة اللوبيات، سلّطت عليه أبشع الضغوط إلى أن رمى المنشفة مستسلما، وفوق ذلك تعرّض للسجن، لكن نزاهته وكفاءته هما اللتان انتصرتا في النهاية، فقد استعيد في الأول من التقاعد لشغل منصب مدير صيدلية المستشفيات الحكومية، ثم عيّن وزيرا للصحة في التعديل الحكومي الذي أجراه الرئيس عبدالمجيد تبون الخميس الماضي.

وبذلك تكون السلطة قد أعادت الاعتبار للمدير السابق لشركة صناعة الأدوية الحكومية “صيدال” علي عون، بتعيينه وزيرا، وهو يعتبر اليوم ورقة تبون الأولى في إعادة النظام والاستقرار إلى سوق الدواء في البلاد، بعدما هيمنت عليه اللوبيات والموردين الخواص، فالرجل إلى جانب إتقانه فن التسيير الإداري، ضليع في كواليس وأسرار السوق التي تحولت إلى فضاء مغلق لا يدخله إلا المحتكرون والمتاجرون بأمراض الجزائريين.

"المكائد" بدأت حين رفض عون المشاركة في بيع مجمع "صيدال"

قطاع منهك

قطاع الصحة منهك بالبيروقراطية وسوء التسيير، وتبديد الممتلكات العمومية، ونقص الإمكانيات والمرافق الضرورية، ونزيف الكادر الطبي، وقائده الجديد يعدّ واحدا من الكفاءات الجزائرية التي أظهرت قدرات عالية في إخراج مجمع “صيدال” قبل سنوات من أزمة خانقة، قبل أن تخنقه ضغوط اللوبيات وتفبرك له مؤامرة زجت به في السجن.

متاعب عون بدأت مع تغول لوبيات استيراد الدواء ودخول شخصيات نافذة على خط الحصول على رخص الاستيراد، خلال حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة. ففي العام 2008 وبعد 12 عاما من إدارته للمجمع الحكومي، اضطر الرجل إلى تقديم استقالته لمجلس الإدارة، لأنه بات غير قادر على مواجهة المخاطر التي تهدده حتى في حياته.

وإن لم تقدم الأسباب حينها للرأي العام المحلي، فإن خبر الاستقالة نزل حينها كالصاعقة على أكثر من 4300 عامل موزّعين عبر عدد من وحدات صناعة الأدوية في بعض محافظات الجمهورية، وقد سادت حالة من الذهول بمقر الشركة المركزي، وعلى مستوى الوحدات الفرعية بالعاصمة وغيرها،  حيث لم يهضم المئات من العمال القرار المتخذ من طرف الرجل الأول في المجمع.

أعرب هؤلاء، في ذلك الوقت، عن استعدادهم للدفاع عن الرئيس المدير العام للمجمع الذي استطاع أن ينقذ هذه الشركة من الإفلاس والحل وجعلها مفخرة الصناعة الصيدلانية في الجزائر. وأطلقت نقابة المجمع حركات احتجاجية من أجل الضغط على الحكومة لرفض قرار استقالته، وتوفير الحماية له من الضغوط الممارسة عليه.

الجزائريون يستذكرون كيف بكت رئيسة الجلسة في قاعات محكمة الجنايات عند محاكمتها للمتهمين ومعهم عون، لأنها كانت أمام مسؤولية كبيرة

حين عيّن عون على رأس المجمع في 1996، خلال ذروة العشرية الدموية كان يشغّل حوالي 2000 عامل، وكان على وشك الإفلاس والحل، خاصة وأن التوجهات الاقتصادية للحكومة كانت تشجع على خصخصة القطاع الحكومي وبيع المؤسسات بالدينار الرمزي للملاك الخواص، لكن قدوم الرجل كان هدية من السماء للمجمع وللمئات من العمال، حيث استطاع في ظرف سنوات وجيزة أن يرفع وتيرة وقدرات الشركة من الإنتاج وصار تعداده أكثر من أربعة آلاف عامل.

وهو ما يكون قد أقلق لوبيات الدواء التي بدأت تظهر آنذاك كالفطريات، وتسعى لفرض ممارسات مشبوهة ومنافسة غير شريفة، ولأن الرجل كان عصيا على هؤلاء، فقد تعرض إلى محاولة اغتيال في إحدى ضواحي محافظة البليدة في منتصف تسعينات القرن الماضي، ثم تم الزج باسمه في ما يعرف بقضية “مجمع الخليفة” حيث اتهم بتلقي الرشوة، التي نفاها أمام محكمة الجنايات بالبليدة.

أكد عون أنه كان بمدينة قسنطينة حين وقوع الحادثة، حيث كان يتابع مشروع إنجاز مصنع الأنسولين، ونام يومها في السيارة ينتظر قدوم الشاحنات، ليعلم عن طريق مسؤول الحظيرة أن بنك “الخليفة” أرسل له سيارة، وبعد رجوعه إلى العاصمة اتصل بالمتصرف الإداري للبنك ليستفسر منه عن الأمر، لكن المتصرف الإداري طلب منه التريث، ومع تعيين المصفي اتصل به عون مرة أخرى طالبا منه استلام السيارة، إلا أن المصفي طلب منه تسديد ثمنها وبالفوائد، وما كان على عون إلا الموافقة للتخلص من المشكلة، لكن المحكمة أدانته بثلاث سنوات سجنا نافذة.

ولم يتأخر الرجل في كشف المستور من خلال إطلاق النار على من أسماهم بـ”مستوردي الأدوية والمخابر الفرنسية” التي اتهمها باحتكار السوق الجزائرية للأدوية، والسعي لتدمير المجمع الحكومي بغية تسهيل الهيمنة على القطاع.

عون لا يتردد في كشف المستور من خلال إطلاق النار على من يسمّيهم بـ"مستوردي الأدوية والمخابر الفرنسية"
عون لا يتردد في كشف المستور من خلال إطلاق النار على من يسمّيهم بـ"مستوردي الأدوية والمخابر الفرنسية"

يد فرنسا وقبضة الجنرالات

ذكر في أحد تصريحاته بأن علاقات وطيدة كانت تربط جنرالات في جهاز الاستعلامات مع مدير المخابرات الفرنسية السابق إيف بوني، من أجل الهيمنة على سوق الدواء في البلاد.

وأضاف قائلا  إن “ابنة مدير المخابرات الفرنسية السابق قدمت إلى الجزائر للتفاوض حول صفقة بين مجمّع ‘صيدال’ وشركة فرنسية كانت تدير أعمالها، حيث قدمت إلى مكتبه وطلبت منه إبرام الصفقة بطريقة مشبوهة لم تكن تراعي القوانين الناظمة، وحينما رفض طلبها توالت عليه بعد ذلك المشاكل من كل الجهات”.

بعد ثلاثة أيام من لقائه بالفتاة الفرنسية في مكتبه، قدم والدها إلى الجزائر وأقام في فندق “سان جورج”، وهناك التقى بجنرالين من جهاز الاستعلامات، واحد منهما رقي في ما بعد إلى رتبة فريق، من أجل مساعدته على تسوية الصفقة بين شركتها ومجمع “صيدال”.

منذ ذلك الحين انهالت المتاعب على عون، وأوفد له الرجل الأول في جهاز الاستخبارات الجنرال محمد مدين “توفيق”، أحد عناصره للتحقيق معه في قضايا وهمية لا أساس لها من الصحة.

قضايا ملفقة

كواليس سوق الدواء التي لا يدخلها إلا المحتكرون والمتاجرون بأمراض الجزائريين يعرفها عون عن كثب
كواليس سوق الدواء التي لا يدخلها إلا المحتكرون والمتاجرون بأمراض الجزائريين يعرفها عون عن كثب

متاعب عون مع القضايا الملفقة والتحقيقات الكيدية تواصلت إلى أن زج به في السجن وقضى عامين خلف القضبان، لكنه حظي بتعاطف شعبي وسياسي، حتى وإن كانت القبضة في أيدي جنرالات جهاز الاستعلامات، لأن الجميع كان يدرك أن الرجل يدفع ضريبة نجاحه وإخلاصه.

ووصفت رئيسة حزب العمال اليساري لويزة حنون الحكم الذي نطقت به محكمة الجنايات في قضية مجمع الخليفة بـ”أبشع الأحكام”، وقالت “نحن في حداد تضامنا مع عائلات المحكوم عليهم في قضية الخليفة، ونعتبرهم ضحايا وليس متهمين”.

متاعب عون مع القضايا الملفقة والتحقيقات الكيدية عديدة، فقد تواصلت حتى زج به في السجن وقضى عامين خلف القضبان، لكنه حظي بتعاطف شعبي وسياسي

رأت حنون أن الأحكام أحدثت صدمة خاصة بالنسبة إلى الضحايا الذين كانوا شهودا وتحولوا إلى متهمين، واعتبرت أن تلك الأحكام مصدر إذلال لكل من له ضمير، وأضافت “كنا ننتظر أن محاكمة الخليفة ستعيد تأهيل القضاء الجزائري وتحدث القطيعة مع المرحلة السابقة لتجسيد استقلاليته عن الجهاز التنفيذي، كنا ننتظر تحديد المسؤوليات والمسؤولين الحقيقيين على الكارثة”.

حسبت شهادة حنون فإن هناك خلفيات كبيرة من وراء الحكم الصادر بحق عون الذي ناضل منذ عدة سنوات ضد خصخصة “صيدال”، ولو أنه أعطى 60 في المئة لشركة فايزر الأميركية، لما صدر ضده هذا الحكم وحكمت المحكمة بالبراءة، حسب تعبير حنون.

كان عون آنذاك لا يزال يقطن في منزل من أربع غرف وتسكن معه ابنته المتزوجة، وهو دليل على أنه ليس راشيا ولا مرتشيا، حسب من ترافعوا عنه، والحكم الصادر في حقه كان حكما لصالح مافيا الدواء التي أرادت تحطيم “صيدال”.

ما تم وصفها بـ”المكائد” بدأت حين رفض مدير “صيدال” في العام 2004 مرافقة الوزير عبدالحميد تمار إلى باريس لبيع المجمع، وقد رأى الجزائريون كيف بكت رئيسة الجلسة في قاعات محكمة الجنايات عند محاكمتها للمتهمين، لأنها كانت أمام مسؤولية كبيرة، فذلك الحكم ليس ضد عون، ولكن ضد مجمع “صيدال” بكامله وضد صناعة الأدوية في الجزائر، وضد كل إطارات الدولة لإجبارهم على مغادرة البلاد، بل هو حكم من أجل تصفية القطاع العام.

12