علي طراد: الخطاب القرآني جعل من لغة جسده لسانا مبينا

العرب القدامى أهم من درس لغة الجسد.
الجمعة 2022/09/02
الجسد عماد الخطابة (لوحة للفنان بسيم الريس)

أصبح موضوع لغة الجسد علما قائما بذاته تحتاج إليه جميع فئات المجتمع من سياسيين وفنانين وشخصيات عامة، وحتى عامة الناس من المهتمين بجعل تواصلهم أكثر فاعلية وتأثيرا في الآخرين، ولكنه ليس جديدا إذ اهتم به البلاغيون العرب القدامى بشكل لافت وهو ما تؤكده دراسة جديدة.

لعل الناظر في تراثنا العربي بعين الباحث المدقق يجد أفكارا وإرهاصات توظيف الجسد في التواصل، وقد استمر هذا التوظيف قائما ومستمرا وفاعلا في الأدب، شعرا وقصة ورواية ومسرحا وفنانا تشكيليا وسينمائيا.. إلخ، وازداد حضورا في تجليات الحداثة وما بعد الحداثة.

وتمكنت دراسة “البيان بلغة الجسد” للباحث الجزائري في علوم اللغة علي طراد من بلورة رؤية مهمة للغة الجسد في التراث العربي على اختلاف تجلياته.

بلاغة الجسد

يقول طراد في كتابه، الصادر عن دار فكرة كوم للنشر بالجزائر، إن التراث العربي يزخر بألوان المعرفة التي تمتاز بالدقة والشمولية، وبخاصة في مجال الأبحاث اللغوية. ولأن رواد علم اللغة الغربيين انطلقوا من دراسات سابقة وأخرى ميدانية تمخضت عن تجديد في الفكر اللغوي، فهو من المنطلق ذاته يحاول في هذا الكتاب الانطلاق من التراث اللغوي العربي الذي يحتوي كنوزاً معرفية تحتاج منا إلى تنقيب وبحث مستفيض، يفضي إلى محاولة بلورة أفكار لغوية ذات طابع علمي في ضوء الدرس اللغوي.

ومن بين المواضيع التي نالت اهتمام الدارسين في مجال التواصل موضوع لغة الجسد body language الذي أصبح علماً قائماً بذاته تحتاج إليه جميع فئات المجتمع، وهو إذ نقارب الموضوع، إنما نحاول كشف الأبعاد الدلالية لهذا النوع من التواصل، فهو عديل التواصل اللفظي حيناً وعضيده حيناً آخر.

علي طراد: لغة الجسد نالت حظا من اهتمام العرب القدامى

وقسم طراد كتابه إلى بابين اثنين: أما الباب الأول فكان لتحري جهود علماء اللغة، فيما كان الباب الثاني محاولة لاستجلاء موقف علماء البلاغة من التواصل الجسدي ومدى اعتباره رافدا دلاليا بليغاً. ورأى أن “جملة من علماء العربية أشاروا إلى مفاهيم تعد ركائز في علم لغة الجسد الحديثة، يقول الجاحظ: ولو جهد جميع أهل البلاغة أن يخبروا من دونهم من هذه المعاني بكلام وجيز يغني عن التفسير باللسان والإشارة باليد والرأس لما قدروا عليه”.

صحيح أن لغة الجسد لم يكن لها مصطلح خاص يحيل إليها، لكن الباحث المنصف يدرك – ولا ريب – أنها كانت موجودة معتبرة مستعملة. وفي سرد حركات جسمية دالة على معانٍ يفهمها الناس لما ألفوه من دلالاتها يقول “فأما الإشارة فأقرب المفهوم منها: رفع الحواجب، وكسر الأجفان، ولي الشفاه، وتحريك الأعناق، وقبض جلدة الوجه”.

وتابع أن “نظرة من عين يمكن أن تحمل رسائل تنوء بها الألفاظ وتعجز عن حملها الكلمات. يقول إيميسون: العين يمكن أن تهدد كما تهدد بندقية معبأة ومصوبة، أو يمكن أن تهين كالركل والرفس، أما إذا كانت نظرة حانية ولطيفة فإنه يمكنها بشعاع رقتها وعطفها أن تجعل القلب يرقص بكل بهجة”.

وأكد طراد أن لغة الجسد باعتبارها أحد أوجه البيان بغير لفظ نالت حظاً من اهتمام العرب القدامى الذين وصلتنا أخبارهم وما كتبوه وما ألَّفوه من كتب، وما أظهروه من اهتمام بهذه الأخيرة، ولا أدلَّ على ذلك من حكايتهم لتلك الحركات والإشارات والإيماءات إذ يعمدون إلى نقلها إلى من لم يشهد الواقعة الكلامية حتى يتمموا المعاني المنقولة.

وقد نبه ابن جني منذ زمن بعيد إلى ذلك حين بين أهمية مشاهدة الوجوه حال التخاطب لأن تعاضد جملة من المعطيات “الصوت ودرجته وتنغيمه، الحركة الجسدية، الهيئات الموحية، الوسائل المستعملة كمتمات للمعاني الملفوظة” كلها تتضافر لإنتاج خطاب مفهوم بالنسبة إلى الباحث، وتتضافر لفهم الخطاب ذاته بالنسبة إلى المتلقي، وقد تخيّرنا جملة من العينات التي نحسب أنها تدل على لغة الجسد – على الرغم من ورود كم هائل لا يمكن الإحاطة به في مثل هذا الدراسة – من خلال معجم لسان العرب يمكننا رصد نوعين من الألفاظ الدالة على لغة الجسد: فإما أن يكون اللفظ دالا على حركة جسمية، وإما أن يكون دالا على هيئة تحيل على معنى معين.

ففي لسان العرب “ومعنى يَبشُرُك ويُبَشِّرُكَ من البشارة. قال: وأصل هذا كله: أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومن هذا قولهم: فلان يلقاني ببشر: أي بوجه منبسط. فمن الهيئات الدالة الموحية بمعان مختلفة: صمت الإنسان وإمساكه عن الكلام جملة يقول صاحبنا: الصمت السكوت، وقد أخذه الصمات. يقال للرجل إذا اعتقل لسانه فلم يتكلم: أصمت فهو مصمت، وقد ينعقد لسان المرء عن الكلام لعدة أسباب فيقال: خترم، صمت عن عيٍّ أو فزع”.

وأشار إلى أن ابن منظور في شرحه للمفردات تعرض إلى لغة الجسد بالتفصيل وبالأمثلة حتى إنه بين استعمالها كلغة لها دلالاتها المباشرة، كما أتى على استعمالها ككنايات عن أمور أخرى لجأ إليها العرب لأغراض بلاغية. ومعجم لسان العرب وغيره من معاجم العربية فيها كم هائل من هذا النوع من الألفاظ وكذا من الشروحات التي تصلح لأن تكون نواة لدرس عربي في مجال لغة الجسد. وهو موضوع يستحق أن يفرد ببحث مستقل لغزارة المادة فيه.

وأضاف طراد أنه في الباب الثاني “دلالات لغة الجسد عند البلاغيين” حاول كشف مدى اعتبار علماء البلاغة لدور لغة الجسد في التمثيل، وتقريب المعاني المجردة من الأذهان، وإلباسها ثوب المحسوس حتى تكون أجلى في الفهم وأوضح في الفكر. كما حاول تلمس جهود علماء البلاغة من خلال بحوثهم الرامية إلى كشف فنية الخطاب، وقدرة المتكلم على إنهاء المعنى إلى ذهن المتلقي. وقد سعى للوقوف على نماذج تطبيقية وضّح فيها البلاغيون دور لغة الجسد في تبليغ المعنى وإيضاحه، وذلك في: القرآن باعتباره أكمل الصور اللغوية والبلاغية التي يمكن الاستناد إليها كدليل لا يقبل الجدل. ثم الشعر الغزلي باعتباره أحوج الأغراض الشعرية لمثل هذا النوع من التواصل، ثم الأمثال باعتبارها مختصرة موجزة تجد ضالتها في لغة الجسد من اللمحة، والاشارة، والهيئة الموحية.

الخطابة والمظهر

لاحظ طراد في الدرس البلاغي أن “علماء تلك الفترة يُقِرُّون بأن البيان لا يقتصر على اللفظ حصراً، بل يشمل جميع ما يحصل به البيان من لفظ وغير لفظ. يقول ابن المقفع فيما ينقله عنه الجاحظ: قال إسحاق بن حسان بن قُوهيّ: لم يفسر البلاغة تفسير بن المقفع أحد قط. سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة: فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة (…) والايجاز هو البلاغة”.

وفي أمر الخطابة أوضح طراد أن القدامى كانوا يعطون أهمية بالغة للمظهر وحسن السمت، فاعتبروها وسيلة من وسائل التقاط أبصار الناس وأفئدتهم. إذ يعتقد حسن الطوية من حسن المظهر، وأن البيان لفظ يعضده مظهر. إذ تنفر نفس السامع من صاحب المظهر المشوش، وبينما ترتاح العين لجمال الظاهرة مع افتراضها جمال الباطن كحكم مبدئي قبل سماع اللفظ “فإن جامع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت، فقد تم كل التمام وكمل كل الكمال”.

ولأن المظهر له تأثير مزدوج: يكون أولاً على نفسية الخطيب ذاته؛ فيشعر بالاطمئنان إلى أنه ليس في مظهره ما يمكن أن يشغل جمهوره سواءً كان ذلك بازدراء مظهره مما يؤثر على تقبلهم لكلامه. ومما يعينه على الراحة النفسية المطلوبة لأداء مهمته، يقول ديل كارنجي “أُرسلَ سؤال إلى مجموعة كبرى من الناس من قبل عالم نفسيِّ ورئيس جامعة يتساءل عن التأثير الذي تتركه الملابس على أنفسهم. فأجمع الأفراد أنهم عندما يكونون بمظهر لائق وأنيق يشعرون بتأثير ذلك، ومن الصعب شرح ذلك الشعور لأنه غير محدد رغم كونه حقيقياً، فقد منحهم الثقة بالنفس”.

وقد أكدت الدراسات الحديثة أن ما اعتبره منظّروا الخطابة العرب علامات للعيِّ، وعدم الجدارة باعتلاء المنابر، ووعظ الناس، وتصدر المشهد من علامات جسمية كاشفة عما يعتري الخطيب أثناء مواجهة الجماهير مثل: الالتفات، والتنحنح، وافتعال السعال، وفتل الأصابع، ومسح اللحية.. إلخ من علامات دالة على العيِّ، وعدم امتلاك القدرة على البيان، والإعراب عما في النفس، يقول المبرد: “وربما تشاغل العييُّ بفتل أصبعه، ومسح لحيته وغير ذلك من بدنه، وربما تنحنح”.

للجسد قدرة عجيبة على اختصار المعاني، والإشارة إلى المراد بحركة عضو أو علامة ترتسم على جزء منه

وفي رؤية للغة الجسد في القرآن، قال الباحث الجزائري: “إن من بين أخفى الدلالات ما قصد صاحبها لإخفائها عمداً وربما زاد على ذلك بإظهار عكس ما أخفى، لكن الخطاب القرآني جعل من لغة جسده لساناً ناطقاً مبيناً. يقول الحق تبارك وتعالى واصفاً حال المنافقين حين نزول لحظات الخوف ومواجهة الأعداء: “فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ”. إن العين تمارس كل أشكال التراسل والتواصل، ومن أخص خصائصها قصر الخطاب على بعض الحاضرين دون بعض. وقد صور القرآن مشهد المنافقين وهم يغتابون النبي وأهل الإيمان بنظراتهم. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: “وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون”.

أما في الشعر، فرأى طراد أن التواصل والتراسل بين العشاق يتم بلغة مشفرة خشية الرقباء، كما أن استعمال هذا النوع من التواصل يضفي مسحة فنية على الشعر الغزلي تجعله ذا أثر بالغ في نفس المتلقي؛ لما يحصّله من لذة تعبير هذا الشعر عن كثير مما يعتمل في نفسه. فالعرب تعرف للعين حقها في التواصل، فتجعلها مصدراً دلاليا تستشف منه المعاني، وتُصَدِّقُ دلالتها على دلالة اللفظ : “وَالنَّفْسُ تَعرِفُ في عَينَي مُحَدّثِهَا/ مَن كَانَ مِن سِلمِهَا أَو مِن أَعَادِيهَا/ عَينَاكَ قَد دَلتَا عَينِي مِنكَ على/ أَشْيَاءَ لَولَاهُمَا مَا كُنتُ أَدْرِيها”.

ولفت إلى أنه في الأمثال “لخص العربي حياته، ونُظمه، وأخلاقه، وعاداته في مقولات مقتضبة يطلقها حكماء المجتمع وبلغاؤه فتكون مركزة مختصرة، ودقيقة وافية فتحمل الألفاظ القليلة منها معاني جليلة. والناظر في تلك المقولات وهاتيك اللمحات يجد أن لغة الجسد نالت حظاً وافراً من تلك التعابير لما لها من قدرة عجيبة في اختصار المعاني، والإشارة إلى المراد بحركة عضو أو علامة ترتسم على جزء من أجزاء البدن فتراهم يعبرون عن عدة معان محاكاة لحركات وعلامات جسمية فتراهم يقولون عن المغضب ‘قطب حاجبيه’، ويقال عن النادم ‘يعض بنانه’، ويقال عن الخجلان ‘احمرت وجنتاه’، ويقال عن المذهـول ‘زاغ بصره’ ويقال عن الخائف ‘ارتعدت فرائسه’.. الخ”.

وكشف طراد أن علماء البلاغة لم يفردوا لغة الجسد ببحث مستقل لكنهم حين قاربوا نصوص الأدب وإبداعاته راحوا يبينون فضلها في توصيل المعاني، ويوضحون دورها في التكنية عن جليل الدلالات، وعظيم فائدتها في تقريب المعاني المجردة إلى الأذهان حتى تصير كالأمر العيان مما يجعل المعنى أوضح ما يكون. كما نوهوا إلى بعض مزاياها التي تتفوق فيها على اللفظ، فهي لغة البعيد الذي لا يبلغه الصوت، ولغة فاقد النطق، ولغة العاشق الذي يخاف افتضاح أمره، ولغة من يريد قصر خطابه على بعض الحاضرين دون بعض. وكل ذلك من قبيل التواصل البليغ الذي يبلغ المعنى بأقصر الطرق وأجلى الصور.

وخلص إلى أن كتابه محاولة لكشف جذور علم “لغة الجسد” في الدرس اللغوي العربي ومحاولة تقديم نماذج يعول عليها في إرساء قواعد متينة لهذا العلم الذي أصبح مهماً في العديد من المجالات الحياتية بل حتى في حياة الناس اليومية.

13