علي السباعي: القصة القصيرة قيثارة الأدباء

”زلزلت الكتابة حياتي، القصة زلزلتني، وأصبح التوقف عن كتابتها والمضيّ في حياتي العادية الآمنة أمراً مستحيلاً، لأنني أشعر بالخواء الروحي عندما أكون عاجزاً عن كتابتها، أجدني في أسوأ حالاتي وأكثرها اضطراباً”.
هكذا يستهل الكاتب العراقي علي السباعي المولود في الناصرية عام 1970 حديثه عن كتابة القصة القصيرة، وهو الذي يعتبر أن الكتابة أصبحت عبئاً على الكاتب يعود ليتدارك أن كتابتها تخلق داخله توازناً عجيباً، تبعد عنه الاكتئاب، فالاشتغال على القصة القصيرة كما يفهمها ضيفنا هي رسالة إنسانية لحياة أفضل للناس البسطاء، ومن هذا المنطلق كرَّس حياتَه لها كما يقول.
فالتغيير الذي ضرب العراق، الانتقال من عهد الدكتاتورية إلى الاحتلال فالإرهاب وصولاً إلى عصابات السرقة، كل هذا أدى إلى تغيُّر ملامح المدن والناس والأشياء، هذا ما دفعه للكتابة كي يرمّم ذاكرة الناس كما يصف، فالسباعي يكسر الجمود المحيط عندما يكتب عن عذابات ذاته وعن الآخرين المحيطين به، فالقاسم المشترك بين الجميع كان العذاب، إنه عذابٌ على الكاتب أن يكون مرآةً له، هذا بالضبط ما يجعل من الكتابة عبئاً كبيراً عند ضيفنا.
الأدب والمحيط
حديثه عن العذابات دفعني لسؤاله عن تأثير الحرب والحصار والجندية والميليشيات في القصص التي ينتجها ليقول “قبل ربيع بغداد 2003، أَثَرَت في كتابتي للقصة أزمنة القهر والحروب والحصارات، نسجت قصصي الحروب التي فرضت على إنساننا المغلوب الذي عاش القرن الحادي والعشرين بثلاث حروب شرسة وحصار قاس. أقرأ ماذا فعلت بنا الحروب؟ ماذا صنعت بإنساننا العراقي؟ إنه منكسر، ليس بإمكانه أن يعود ليتلاءم مع الحياة -والحديث لضيفنا- حاولت مساعدته بالكتابة عنه لأنني مؤمن مذ تشكل وعيي الكتابي بأن كاتب القصة هو ضمير الأمة ووجدانها”.
|
هذا الانكسار الكلي ما لبث أن تلته انكسارات متتالية، هبوط حاد في كل شيء، دخول الأميركان، حل الجيش العراقي، الكوارث العراقية المركبة والحادة على حد وصف السباعي الذي لم يجد أمام كل هذا إلا الأدب الذي يعتبره الناقل الحقيقي لأدق المشاعر والتفاصيل والآمال التي ربما يتحقق بعضها ويتحطم الكثير منها على صخرة الواقع القاسية، فالصمت غير ممكن عند علي السباعي عن الموت المنظم والمدروس للشعب العراقي، فالموت المنظم يعني محو الذاكرة العراقية وتحريف التاريخ.
التفاصيل اليومية
أمام هذا الإحساس الجمعي الذي يحمله ضيفنا أسأله عن مدى وجود التفاصيل اليومية كمادة حية للقصص التي ينتجها، ليقول إنه يعيش التفاصيل اليومية إلى الأقصى، فالتفاصيل بمجموعها هي الحياة والحياة هي الكتابة عنده، ورحلة البحث عن قصة جديدة تأتي من فعل صادم يومي يرميه في الحُلُم كما يصف، فالسباعي يستعيد اللحظات التي مرّت عليه من جديد بألق آخر، يتابع قائلا “التفاصيل اليومية لما خلفته الحروب على أناس الهامش في بلادي هي التربة الخصبة التي نشأت فيها ومنها تغذت قصصي، إذ تقع أغلب أعمالي القصصية في قعر حياتنا الساخن، قعر عشت نهاراته ولياليه بكل تفاصيلها علني أجد تفصيلاً كئيباً، تفصيلاً مثيراً، تفصيلاً مطمئناً، تفصيلاً مغرياً، حيث أن الكلمات حين تسكن جوار بعضها البعض في بناءات تكبر بداخلي يوماً بعد يوم تتطلب كتابتها حنكة سردية قاسية وفاعلة وفعالة وفاتنة ومغرية لتصير مدناً من قصص، قصص من مدن الكلمات تغوي قارئيها على الولوج لأن هذه التفصيلات الصغيرة المغوية هي التي بنيت منها حياتنا، أكتبها لأدوّن اليومي وأضعه في بقعة ضوء يستطيع من خلالها الناس تبيّن مصائرهم بمصائب غيرهم التي جرت في عتمات المآسي، لأنني أكتب قصص الناس بروح عراقية خالصة لأنها منسوجة من خامة تفاصيل يومهم الشاق، أكتب التفصيل اليومي كي أعيد صورته المهزوزة في نفوسهم حتى يصحوا لواقعهم المر، صورتهم الشاحبة بالسود والبيض في قصصي”.
التفاصيل اليومية لما خلفته الحروب على أناس الهامش في العراق هي التربة الخصبة التي نشأت فيها ومنها تغذت قصص السباعي
هكذا يبني علي السباعي ملامح مشروعه القصصي، فهو يعتبر نفسه محارباً بلا جبهة، يجسد صورة دون كيشوت، يكتب قصصه بصدق الإحساس وخفة الحلم، يحصي خسارات الجَمع التي هي خساراته، ينصت لصمت الموت ولنبض الحياة بنزعة إنسانية صادقة بداخله، فقصصه تعلن رصد تعارضات حادة تشكل الواقع العراقي في مشهدية سيميائية بقصص تعلن امتدادها الزمني من نهاية الثمانينات من القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة وحتى الآن، فالحدث والمكان بطلان لنصه القصصي والسخرية المرّة سيدة الموقف.
لضيفنا علاقة خاصة بمسقط رأسه حيث يعيش اليوم في الناصرية، إنها ليست مكاناً جغرافياً فقط، هي امتداد حضاري عظيم، يتلاحم فيه الإنسان مع المكان، ورغم هذه العلاقة الحميمة مع المدينة إلا أن السباعي دائم القول إنه يعيش اغتراباً دائماً، فأسأله هل الاغتراب معنوي أم مادي؟ وكيف يتصالح مع علاقة الحب والاغتراب التي تسكنه؟ ليقول “كان اغترابي اغتراباً معنوياً بعد أن امتزجت الذكريات والصور، تداخلت، حضرت وغابت، تفرقت وتفرعت في دروب الحياة، حاولت كثيراً وحتى اللحظة أحاول جاهداً إثبات وجودي القصصي في عالم هو عالمي بالدرجة الأولى، عالم الناصرية التي تمكنت بقصصي وبأبطالها من التغريد خارج السرب في فضاءات رحبة واسعة صافية، وأنا أكتب ويلاتهم كانت المدينة تأخذ بيدي في طريق العودة إلى الجذور البعيدة”.
|
عوامل متنوعة
أسأل ضيفنا عن حال القصة العراقية والأشياء التي يجب أن تكون بها كي تصل إلى العالمية، فيقول إنه يشبِّه القصة القصيرة بالقيثارة، والقيثارة تحتاج باستمرار إلى نغمة جديدة متميزة تبرز تفرد معزوفتها وتميزها، والقصة بوصفها الخيط الرفيع الرابط بين الحياة والحلم هنالك ثلاثة عوامل أساسية، الأول يخص منتج القصة من حيث الارتباط بالتجربة الحياتية الواسعة والإلمام الكبير بفن القصة عبر المعرفة العميقة لمختلف الأساليب من بناء النص وعمقه ولغته وعناصر الدهشة فيه وفكرته وأساليب كتابته التي تطورت منذ أدغار ألن بو وصولاً إلى أنطوان تشيخوف مروراً بموبسان، إنها وقود فكري، اتّساع معرفي، إمكانية الخوض في تجارب الناس، وكتابة الأهم لما يحدث في المشهد الحياتي والاعتماد على الذات المجربة القادرة على هضم تجارب الآخرين، وشق طريق جديد يعطي للنص هوية مميزة، وتطوير لغة القص بلغة متميزة وثرية، بالإضافة إلى الإتقان الممتاز للغة، والحس اللغوي المتطور القادر على إبداع لغة درامية في السرد.
أما العامل الثاني كما يراه ضيفنا فيقوم على القراء، جمهور القراء كما يراه يحتاج إلى وقت طويل لإدراك أهمية الكتابة، بينما يعتمد العامل الثالث على الحاضنة، الدولة، فالمؤسسات هي الحاضنة الحقيقية للأديب والقارئ بتوفير مناخات ملائمة وحواضن حقيقة هدفها الارتقاء بذائقة الناس وإيصال المنتج إلى مديات أرحب وأوسع.
علي السباعي هو كاتب وقاص عراقي من مواليد الناصرية عام 1970 بدأ اشتغاله القصصي عبر مجموعته “إيقاعات الزمن الراقص” الصادرة عام 2002 في سوريا، وأتبعها بالمجموعة الفائزة بالمركز الثالث بمسابقة دبي الثقافية عام 2004 تحت عنوان “صرخة قبل البكم”، ومن ثم مجموعته “زليخات يوسف” عام 2005، وفي عام 2006 فاز بجائزة ناجي نعمان في بيروت حيث أصدر “احتراق مملكة الزاماما”، وليتبع كل هذه الإصدارات بقصَّتين تحت عنوان “بنات الخائبات”، ومن ثم “مدونات أرملة جندي مجهول” عن دار ميزوبوتاميا في العراق، ومؤخراً صدر له “شهرزاد، قدري، شهادات” عن دار صافي في الولايات المتحدة الأميركية.
كاتب من سوريا