على ضفاف النيل حكايات مجهولة لقرى سكانها من الغرقى

"الغرق.. حكايات القهر والونس" رواية عن نساء ورجال بلا مصائر، والروائي السوداني حمور زيادة يحمل أصوات المقهورين عبر النهر.
الجمعة 2019/03/08
المتناسلون من اللامكان في قرية تتفاخر بالأنساب (لوحة للفنان شاكر حسن السعيد)

يزخر السودان بعوالم ثرية للغاية يخطها تنوع بيئته وشعبه وعراقة تاريخه، ما يجعل منه خزان حكايات، حكايات تنبت من ضفاف النيل وتجمع بين ما هو عربي وأفريقي في مزيج عجيب. وقد ارتبطت بنهر النيل الكثير من الأساطير، حيث تعتبر ضفافه ملتقى لأحداث كثيرة، وهو ما التقطه الروائي السوداني حمور زيادة في روايته الأخيرة.

القاهرة – عن الاختيار والقهر ومصير الإنسان في مجتمع تحكمه العادات والتقاليد يتحدث الروائي السوداني حمور زيادة في أحدث أعماله “الغرق.. حكايات القهر والونس″ بأسلوبه الذي عهدناه في روايتيه السابقتين.

الرواية، الصادرة عن دار العين للنشر، هي الثالثة لمؤلفها المتوج بجائزة نجيب محفوظ للأدب من الجامعة الأميركية بالقاهرة في 2014 عن روايته “شوق الدرويش”، إضافة إلى مجموعتين قصصيتين.

تدور أحداث رواية “الغرق.. حكايات القهر والونس” داخل قرية حجر نارتي السودانية، الواقعة على نهر النيل، حيث يتخذ المؤلف من مايو 1969 منطلقا لسرده، الذي يسير بالتوازي بين حكايات البشر وحكايات الوطن.

تبدأ الحكايات بالغرق، حيث يعثر أهل حجر نارتي على جثة طافية على سطح النيل لفتاة مجهولة الهوية، فيرسلون كعادتهم للقرى المجاورة حتى تأتي الوفود للتعرف على الجثة، لكن دون جدوى.

القهر في الرواية لم يكن منبعه المجتمع الذكوري فحسب، بل تعلمت النساء كذلك ممارسة القهر ضد بعضهن البعض
 

ومع التوغل داخل بيوت ودروب حجر نارتي تكثر الشخصيات والأسماء، لكن تظل المرأة هي محور الأحداث، فنجد من بين الشخصيات المحورية شخصية فايت ندو، صاحبة العريش القريب من المرسى النيلي، الذي تقدم فيه الشاي والقهوة لكل قادم للقرية أو راحل عنها.

فايت ندو امرأة في منتصف الأربعينات، ولدت لأم من الإماء في عهد مضى، لكنها وقعت في المحظور ذاته حين أنجبت ابنتها عبير خارج إطار الزواج.

تتطلع فايت ندو إلى مستقبل أفضل لابنتها، وتريد أن تلحقها بالمدرسة حتى تصبح ذات يوم طبيبة، لكن القهر المجتمعي والصراع الطبقي يلقيان بالطفلة عبير إلى ذات المصير، فتصبح أما وهي في الثالثة عشرة من عمرها دون زواج.

اللافت للانتباه أن القهر هنا لم يكن منبعه المجتمع الذكوري الذي تحكمه القبلية فحسب، بل تعلمت النساء كذلك ممارسة القهر ضد بعضهن البعض فمن حرمت عبير من التعليم هي زوجة العمدة.

حكايات البشر وحكايات الوطن
حكايات البشر وحكايات الوطن

وفي أحد الحوارات تقول فايت ندو لابنتها عبير “نحن وحيدتان. ليس لنا أهل ولا مال ولا احترام. كل اللائي يعانقنني يضمرن لي احتقارا”.

وتتابع قائلة “نحن المتناسلون من اللامكان في قرية تتفاخر بالأنساب. لا يحترمنا أحد إلا بمقدار ما يحتاجون إلينا وما نُظهر لهم من أدب وطاعة. أنت لست بنت البدري ولا من بيت الناير، ولا أبوك صاحب أطيان. أنت بنت فايت ندو”.

إذا كان قهر النساء يتمثل في الضرب أو الإهانة والاستغلال الجنسي فإن قهر الرجال لا يقل وطأة وألما. فهذا محمد سعيد ابن العمدة الذي يجبره أهله على العودة إلى حجر نارتي لأخذ مكان والده الراحل ويترك الدراسة في الجامعة، فيتغير مصيره وتتبدد أحلامه بأن يصبح “أفندي”.

تنازل محمد سعيد ورضوخه لرغبة الآخرين يغرقه في قهر أكبر حين يصبح مجبرا على مباركة الحركة العسكرية التي قادها جعفر النميري لتولي السلطة في السودان وإلا فقد منصبه وأنهى نفوذ عائلته.

كل هذا القهر لم يمنع الرجل من ممارسة ذات الطقس على شقيقه الأصغر الرشيد الذي يجد نفسه بين يوم وليلة مضطرا إلى الزواج من نور الشام أرملة شقيقه بشير، والتي تكبره بعدة أعوام، وذلك للحفاظ على الميراث وتربية ابن أخيه اليتيم.

كل هذه النماذج التي يقدمها المؤلف وغيرها تخرج من بين سطور الرواية لتطرح تساؤلات قد تبدو بلا إجابة شافية عن إرادة الإنسان والصراع المستمر بين ما يتمناه وما يُفرض عليه وحقه في تقرير مصيره. ولا تخلو الرواية من صور بديعة رسمها المؤلف بكلماته عن النيل والريف في السودان، إضافة إلى الكثير من الأشعار والأغاني التي وظفها في مناسبات الحزن والفرح لسكان حجر نارتي.

ومثلما بدأت الرواية بغرق فتاة مجهولة تنتهي بغرق فتاة أخرى لكن هذه المرة يعرفها القارئ الذي عايش معاناتها.

14