على الرواية أن تجعل من كل شيء تلامسه قضية إنسانية

رهانات الرواية المغربية بين الخيارات السردية للكاتب وكسب ثقة القارئ.
الاثنين 2022/02/14
الكتابة الروائية نوع من اللعب (لوحة للفنان يحيى زكي محمد)

يبحث الكثير من القراء عن أنفسهم في الشخصيات الروائية التي يقرؤونها، وهذا ما يضع الكتاب أمام رهانات صعبة لخلق واقع غير حقيقي وموهم بأنه حقيقة مطلقة عبر شخصيات حية لها رؤاها وأفكارها ومشاعرها وتقلباتها. وهذا ما يميز تجربة روائي عن آخر، في القدرة على خلق حياة حقيقية موازية.

هناك الكثير من كتاب الرواية المغاربة يؤكدون أنه  بمجرد أن يشرعوا في عملية الكتابة حتى تحتجزهم القصة وتأسرهم الشخصيات كرهائن وبالتالي يتعين على معظمهم تسلق جبال الشك الذاتي لخلق شخصيات يمكن للقارئ التعاطف معها، وقصة يكون لها صدى أثناء الغوص بعمق في الأماكن التي بداخلنا حيث تتصادم الآمال والأحلام والحزن والظلام، ويتطلب هذا إعطاء الحياة ونبض القلب للشخصيات من خلال الحوار والسرد.

وفي هذا السياق يؤكد الروائي المغربي عبدالكريم جويطي لـ”العرب” قائلا إن “كتابة رواية أمر جدي بالنسبة إليّ أقبل عليه باستعداد لقراءة عشرة كتب من أجل كتابة فقرة دقيقة واحدة، لهذا هناك مسافة فاصلة تتعدى خمس سنوات بين رواية ورواية، ورهاناتي في الرواية صعبة جدا. فرواية ‘ثورة الأيام الأربعة’، على سبيل المثال مشكّلة من أربعة أجزاء، كل جزء أحكي فيه وقائع يوم واحد في واد صغير لكن المصائر فيه كبيرة”.

ويضيف “زيادة في تضييق الخيارات السردية اخترت أن أروي الرواية بضمير المتكلم. أنا في سن راكمت فيه تجربة في الكتابة وأرى أن هذا هو الوقت لكتابة مشروع روائي كبير ومعقد، أحكي فيه سيرة الجبل المغربي. أتمنى أن أنجز العمل كما خططت له وأن أمنح الرواية المغربية نصا سيقاوم الزمن”.

ويعتقد الروائي والناقد المغربي أحمد المديني أن الرواية تحتاج إلى تأسيس مشروع وطرحه وترتيبه، وهذا يأتي من حياة مختزنة وذاكرة مراكمة ووجدان كما جمر تحت الرماد، وتحتاج أيضا إلى سلالة ستحييها بنقلها من معيش كان إلى آخر يتكون عبر زرع نطفة اللغة والروح في رحم التخييل، أي فن السرد، لتبدأ عندئذ حياة جديدة اسمها الرواية.

خيارات سردية

¨ رواية تحدد خارطة لعبها الروائي بخطوط ومقاسات لم تستعملها بعد الرواية المغربية

من خلال حياكة الحبكة داخل الرواية مع القوى الدافعة لها، يمكن للراوي أن يربط بين الأشياء التي تحدث بالفعل والطموحات الشخصية المهمة، من قبيل الحب وقيمة التواضع والتفاني والتضامن، أو اختبارًا للجشع أو الولاء أو فشل الحلم، وهنا يعتقد أحمد المديني أن الروائيين المغاربة فيهم من يتجددون متى ما كانوا ذوي موهبة مصقولة بدراية بمفهوم الأدب وصناعته، أسها أنه لغة نتحكم فيها ولا تحكمنا، وأخلاق ومثل بنت نصوصنا لا نمليها بمخيلة خلاقة، ووعي عميق بالتاريخ ننسجه روائيا بتخييلنا.

وفي هذا الصدد يمكن أخذ رواية “ثورة الأيام الأربعة” لعبدالكريم جويطي كنموذج وهي جزء أول من رباعية تصدر تباعا، كل جزء يمكن أن يقرأ كنص مكتف بذاته، إذ يقول جويطي “فيما تدور أحداث الرواية بوادي إيرس في الجبل على علو 2400 متر عن سطح البحر، كما تدور أحداث الرواية في مساحة خمسة كيلومترات مربعة، في أربعة أيام عصيبة انعدمت فيها الخيارات، من هناك، في خضم ثورة مسلحة”.

ويقول جويطي لـ”العرب”، “أكتب الرباعية عن الجبل، والحيز الكبير فيها من الخيال يعنى بالجبل كسردية شاسعة وجوديا وحضاريا وتاريخيا”، موردا أنني “كنت أحتاج إلى حدث فارق يكسر إيقاع الحياة في أودية الجبال ووجدت ضالتي فيما سمّي بأحداث مولاي بوعزة المأساوية”.

ويؤكد أنه يمكن الرجوع إلى ملف هذه الأحداث كما سجلته لجان الإنصاف والمصالحة، فهناك شهادات مروعة بحقّ عمّا وقع. لقد شكلت تلك الأحداث جرحا وطنيا ينبغي أن ينكبّ عليه الأدب بما يملك من قدرة على النفاذ إلى ما لم يندمل، هناك شهادات كثيرة كتبت عن تلك الأحداث وقد قرأتها كلها واستمعت في لقاءات مباشرة إلى بعض من شاركوا فيها.

ويعتقد الكاتب بوشعيب الساوري أن قيمة العمل الأدبي لا تكمن فقط في نوع الرؤية والقضايا التي يطرحها، بل تكمن، وهو أمر هام، في الطرق والكيفيات التي يقدم لنا من خلالها دوال المحكي الروائي. هذا ما تحاول ملامسته هذه القراءات بهاجس استخلاص السمات النوعية والأسلوبية والجمالية سواء المشتركة أو الفارقة بين هذه التجارب الروائية الجديدة.

ويبدو أن هذا يتعلق بهيكل السرد الجيد الذي يتعلق عضويا بتقديم عناصر الحبكة والقصة للسماح للقراء بفهم ما يحدث وما يعنيه جميعًا، بطريقة لا تربك القارئ بينما تتدافع الأحداث وتتطور الحبكة والصراعات المركزية داخل المتن الروائي، ولهذا يرى جويطي، في حديثه لـ”العرب”، “إنني كنت على وعي تام بأن الرواية التي سأكتب لن تتبارى مع هذه الشهادات وتضيف شهادة أخرى لكم. فالشهادات موجودة بل عليها أن تتسلح بكل أدوات الرواية: السخرية، التنسيب، الشك… لتلامس القضايا الإنسانية الكبرى الثاوية في حدث تاريخي عابر، كل شيء تلامسه الرواية ومهما كان صغيرا تجعل منه قضية إنسانية تعني البشرية جمعاء”.

 ومن جهته يقول الساوري إن هذا النموذج من الروايات المغربية يقدم لنا إجابات متعددة تغني المشهد الروائي المغربي، الكتابة بالحكاية، الكتابة بالموروث، الكتابة بالتقنيات السينمائية، بالتشظي والسخرية، العجائب، حيث تظهر الخصوصية المغربية في هذه الروايات، نظرا إلى كونها تعكس الخصوصية المحلية بمختلف تجلياتها سواء على المستوى الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي من خلال طرق الكتابة وكذلك المتخيل.

سردية متطورة

¨ رواية تتشظى في مناح شتى نظرا إلى تعدد سارديها

إذا كانت الكتابة الروائية سردا أقرب إلى العلم والنبش في التاريخ والناس عبر سردية تتطور أطوارها مع الحدث، فالجزء الأصعب من الحرفة هو الوقوف والتأني عندما يشعر الكتّاب أن كتاباتهم محرجة أو بلا هدف أو – الأسوأ من ذلك – مملة، فسيكون هذا ما يقوي بنية الرواية.

وكمثال رواية “هوت ماروك” (عنوان إنجليزي ترجمته المغرب الساخن)، لكاتبها ياسين عدنان وهي بالنسبة إلى الروائي والناقد أحمد المديني تحدد خارطة لعبها الروائي بخطوط ومقاسات لم تستعملها بعد الرواية المغربية، فتقتحم أولا الفضاء الرقمي جاعلة منه باقتدار أداة ومحركا في البناء الروائي وعوالمه. وهي تعطي لما يسمى بالهامش الصدارة، فيغدو هو المركز وحكاياه وهمومه الأجدر بالسرد. في هذه الرواية عمد الكاتب إلى قرن اسم كل شخصية بحيوان، ما ينسجم والرؤية العامة لهذا العمل.

من يمكنه أن يحكي روايات الشخصيات التاريخية، حيث تركز هذه الأعمال على الأشخاص الذين تبدو حيواتهم وكأنها ملكية عامة، وأشخاص لديهم أساطيرهم الشعبية الخاصة، ففي أعمال الجويطي يعتقد أحمد المديني أن القارئ سيحتاج إلى حنكة لفك مغاليق وشفرات “رواية المغاربة” الصادرة في العام 2016، وإلى صبر وكل محاولة لتلخيص الرواية فهي مجازفة إذ تتشظى في مناح شتى نظرا إلى تعدد سارديها.

إن فهم الناس رواية لما تكتنه حياتهم من خلال سرد القصص ينعكس في بناء الكتاب، فالشخصيات الخيالية هي الآلية التي يكتسب القراء من خلالها نظرة ثاقبة للروائي سواء في ما يرتبط بتقنيات الموضوع التاريخي أو الاجتماعي وتداخلاته النفسية والمعتقدات الدينية والسياسية، ما يساعد في توضيح الحدود الدقيقة بين القارئ والروائي.

ومن المعلوم أن الروائي له في معظم الحالات آراؤه الخاصة ومواقفه ووجهات نظره للعالم والمجتمع الذي يعيش فيه، حيث تكمن الذاتية الجوهرية للسرد الذي يميز جوهر روايته لأحداث القصة، ومنها على سبيل المثال “رواية المغاربة” لعبدالكريم جويطي.

ويعتقد أحمد المديني أن رواية جويطي تتوسل التوثيق التاريخي والذاكرة الشعبية أقوالا وأمثالا وأهازيج، فجويطي يقلب بروتكول قراءة الرواية العصرية، فهو يلعب وهذه خصلة كاتب الرواية وشرطه الأول ليصبح روائيا حقا، أو سيبقى هاويا، فقد عمل عامدا إلى كسر أيّ تعاقب كرونولوجي، وجلب نصوص وشخصيات موازية، أيضا، تناص مع الحدث، مع المحكي، أو وضع الشخصية.

وتماشيا مع هذا الطرح، يقول جويطي لـ”العرب”، “كتبت نصوصا بما توفر لي حينها من هواجس مرتبطة بالأساس بالمكان وما يهدده، وانتقلت من نص إلى نص دون خيط ناظم، أما الآن أعرف ما أريد، وتختمر مواضيع كثيرة في داخلي وهي مرتبطة بأسئلة ملحاحة تؤرقني وتكون الكتابة إحدى الوسائل الناجعة لا لإيجاد جواب واحد لها بل أجوبة كثيرة ممكنة”.

¨ رواية مشكّلة من أربعة أجزاء، كل جزء يحكي وقائع يوم واحد في واد صغير لكن المصائر فيه كبيرة

ويسترسل جويطي موضحا “إنني في رواية المغاربة طورت أفكارا وردت في رواية ‘كتيبة الخراب’، وفي الرباعية سأعود إلى حدث ذكرته أيضا في ‘كتيبة الخراب’، وسأفتح مواضيع في الرباعية أطورها في روايات أخرى قادمة، فقد صارت كل رواية أكتبها تلد أخرى من رحمها، فأنا منشغل بالمغرب والمغاربة وبقضايا الكتابة الروائية، وأعمل على تطوير تجربتي من نص إلى نص آخر، لديّ توجس كبير من أن أكرر نفسي ففي كل نص جديد أخرج عاريا لأرض بكر بإحساس أنني لا أستأنف الكتابة وإنما أبدأها من الصفر”.

إذا حولنا الوجهة نحو الروائي المغربي مبارك ربيع نجد أحمد المديني يقول عن أعماله الروائية إنه ارتبط بكل تأليفه السردي أحد مداخل فهمه الأساس للواقعية وهي مفتاحه الأم. فبما أنه يكتب عن الفئات الشعبية والمهمشة والبدوية، يضع على لسانها لغتها وما يقترب من ذلك، فلا تغترب عن حالها ولا تأتي متمحلة متكلفة منفصمة بين الواقع والمحاكاة الروائية.

يتطور تمرين الثقة بين القارئ والروائي من بوابة الإحساس بأن العالم المخلوق في الرواية هو أكثر واقعية مما هو عليه، وهنا يعتمد الروائي استراتيجية دمج اللغة والذاكرة والروح، فهذا “الثالوث” هو ما يخلق ترتيبا سرديا زمنيا من شخصيات هامشية في حياة كلها خيالية مع أسماء أخرى واردة في الكتاب مأخوذة من التاريخ والواقع المعيش.

وهنا يقول المديني إن “جويطي يراهن على تعبئة عنوان المغاربة بالمعنى والدلالات القصوى- البرنامج السردي- مستثمرا موروث حكي تاريخي وسياسي وعقدي وسلالي، هو سيرة الاستبداد والهيمنة والتمرد وفروض الولاء، وتمظهرات سلطة الاستعباد والجور بأبشع الصور والأدوات، سيرة ممثلة في سرد قصة شخصية تنتمي إلى البيئة مدار الرواية، منطلقا وخاتمة، هي قصة واقعية حد الفظاظة بقدر ما تكتسبه من حلل تخييل زاهية”.

ومن التحديات التي ترافق الروائي المغربي هي اندماجه في الحدث مع إدراك العالم الذي تتحرك فيه الشخوص وتحويله واستيعابه وتفكيكه، وإعادة دمج كل عناصر ذلك الواقع في عملية معقدة لإنتاج سردية تعبّر عن لمحات من حياة متشعبة يختلط فيها الواقع والخيال.

فالحبكة النموذجية في الرواية هي شيء من الواقع والكثير من الخيال الذي قد يكون مرآة يمكن للقارئ المتلقي من خلالها التعرف على نفسه بشكل فردي وجماعي، فالروائي يعيد سرد القصص لأنها ذات صلة بالخلفيات الاجتماعية والعقائد والفلسفات والمشاعر، والتي يمكن أن “تنجح” القصة بموجبها في العديد من السياقات المختلفة (أو عوالم القصة)، حتى عندما يشكل السياق المحدد تفاصيل الطريقة التي يتم بها تنفيذ هذا التكرار المحدد للقصة.

وكمسار في المدرسة الواقعية في تخطيط المتن الروائي، يختم عبدالكريم جويطي رؤيته حول شخصيات رواياته، وكأنه عرفها في حياته الماضية، فيقول “بل عاشرتها ولا أخضعها لتخطيط مسبق، تكون لديّ أفكار عامة حول الشخصية وتكتمل هذه الأفكار داخل الكتابة، لدفق الكتابة منطق خاص، وكلما وثق الكاتب في حدوس الكتابة وفي قدرتها على تحرير الخيال والحفر عميقا في طبقات اللاوعي كلما أهدته شخصيات ورغم كونها وليدة الخيال فإنها أكثر واقعية من كل من نعرفهم”، معتقدا أن دون كيشوط ومدام بوفاري وأنا كارنين التصقوا بحياتنا أكثر من جيراننا الأقربين.

¨ تمرين الثقة بين القارئ والروائي يتطور عبر الإحساس بأن العالم المخلوق في الرواية أكثر واقعية مما هو عليه (لوحة للفنان يحيى زكي محمد)

 

13