"علبة الأقنعة" رواية مغربية عن شخصيات تقيم في جحيم وجودي

صدر للإعلامي والشاعر المغربي محمد رفيق عمله الروائي الأول الموسوم بـ"علبة الأقنعة"، والذي ينفتح من خلاله على عوالم الهجرة وقضايا الهوّية والانتماء وصراع الذات مع الآخر.
الأربعاء 2018/01/03
لعبة متعدّدة الوجوه والأقنعة

الرباط – رواية “علبة الأقنعة” للشاعر والإعلامي المغربي محمد رفيق عمل سردي ينطوي على جهد متنوع، ينم عن وعي وحسّ راق بالكتابة وأسئلتها، ويتجلى ذلك عن قرب، في تصديره لروايته في كلمة بعنوان “الكتاب” تقدم تصوّره للكتابة السردية، باعتبارها نسجا وأقنعة تمتص الذوات والمصائر، المكان والزمان.. وتبقى ذات الكاتب كوعاء يرشح بمكنوناته للتحاور مع التاريخ والمجتمع.

وامتد هذا الفهم للكتابة في هذه الرواية التي تنطرح كعلبة حكي أو لعبة متعدّدة الوجوه والأقنعة بين هوّيات وتشابكات على الأرض المصفدة بالحدود والأيديولوجيات.

ومن هنا تتداخل البداية مع النهاية، فكل بداية قد تغدو نهاية والعكس صحيح، ولهذا يؤكد المؤلف في البدء على فعل التخييل، ليس فقط في توليد أحداث مغايرة ومفارقة بل في تقديمها وترتيبها باعتماد شكل خطابي أو طريقة في السرد.

وتتكون رواية “علبة الأقنعة” الصادرة مؤخرا عن دار “فالية” للنشر ببني ملال من فصول أو بالأحرى أبواب (البداية، السداد، حميدو، اللغز، القناع، كاليفورنيا، العودة، تركيا، الرقة والبلدة).

وتقدم الرواية بلدة نائية في عيشها اليومي المتجسد في علاقتها بالأرض جذورا وفلاحة، فتم التركيز سردا على عيّنة تمثيلية لهذه القرية المقذوفة لقدرها. فالشخوص تمثل جوانب الحياة في هذا المكان، فهذا الفقيه الذي يمارس تأثيره المقدّس ولو من خلال التمائم إلى جانب العرافة، إضافة إلى شيخ القبيلة (بالمعطي) ومكانته المحورية، وكذلك المقدم، هذا فضلا عن الأبناء (حميدو، رشيد)، فالبلدة في صراع -لتأمين حياتها- مع القرض الفلاحي والدولة.

ونقرأ في “علبة الأقنعة”، ص 21 “حان وقت السداد، وأزفت ساعة الأداء، كانت سيارة القرض الفلاحي تجوب سوق البلدة الذي يتزامن مع كل يوم أربعاء من الأسبوع، ولأهل هذا المكان عشق خاص للسوق والقرض حين الاقتراض وليس حين الأداء..”.

ويتعلق الجانب التالي بالأبناء، حيث انتقلوا من البلدة إلى مراكش لإتمام الدراسة الجامعية، وهناك ستسلط الرواية الضوء بهذه المدينة على تناقضاتها، ومن ذلك الدعارة، ممّا أدى إلى إصابة حميدو بمرض انتهى به إلى التداوي الشعبي دون جدوى.

وورد في نفس المؤلف، ص 49 “ساعة من الوقت، كانت الناقلة أمام الولي مول الخبزة، استقبلهم الشريف صاحب القبة، وهو يضع قلادة اللبان الذكر الموريتاني، التي تعد بركة وإرث أجداده، وفيها السرّ المبين للهيبة وتحقيق متمنيات المرضى والزائرين، اختاروا لحميدو بيتا في عمق الولي، سلكوه في سلسلة من أربعة أمتار، مربوطة إلى جدار بجواره أحد مرتادي الولي (بويا عمر)”.

الرواية تنطرح كلعبة متعددة الوجوه والأقنعة بين هويات وتشابكات على الأرض المصفدة بالحدود والأيديولوجيات

أما رشيد فقد حصل على الإجازة في التاريخ واختار السفر وراء البحار نظرا لبطالة الخريجين الجامعيين من خلال “الحريك” اضطرارا ضمن شاحنة منطلقة من طنجة.

وهناك، سيتم تقديم واقع المهاجر بين مشاكله وإشكالية الاندماج، وقد امتد هذا السفر المتقطّع بين إعادة ترحيل رشيد إلى بلده، لكن ظل يعاود الكرّة، وأثناء كل مكان إقامة (إيطاليا، تركيا، أميركا) يتوقف السارد على موضوعات محلية، ذات امتدادات في العالم كصدمة أميركا أثناء ضربة البرجين، والجماعات الإسلاموية المتطرفة، فكان رشيد الطالب والباحث مطاردا بين ثقافات وسياسات، بين إكراهات وأيديولوجيات، لكن بعد عودته النهائية إلى بلدته، سيعاين موت أبيه (بالمعطي)، وهو صاحب قيم ومكانة مؤثرة في القبيلة، نظرا لدفاعه عن الأرض والعرض.

أما ما يتعلق بالتقنيات السردية، فالرواية اعتمدت بناء دائريا، حيث انطلقت من البلدة وانتهت إليها عبر شخصية رشيد التي تخيط الفصول التي تنطرح كمشاهد تبرز رؤوس القضايا، في تركيز على التفاصيل التي تقول الحقيقة بشكل غير مؤدلج.

وإن اعتمد الكاتب الخطية في روايته، لكنها تنبني كأدراج تفضي للداخل والخارج، في تواز يعمّق نغمة الفقد والمأساة المتجلية في تصعيد درامي ينتهي بموت شيخ القبيلة، كأنه معادل موضوعي لها.

إنها رواية تجري أحداثها بين موتين، وبينهما موت ثاو في الذوات، وهي تصارعه بأشكال مختلفة على الأرض، كأن الأمر يتعلق بإشكالية وجود الإنسان، وفي هذا الصدد تكون الانتماءات عبارة عن أوهام؛ سرعان ما يتم التنكّر لها، للتكيّف، قصد عيش كريم.

الرواية بدت رشيقة في لغتها الواصفة المستبطنة للشخوص، في تركيز على الواقع اليومي وانعكاسه النفسي والفكري، فكان السارد يتابع (في مصاحبة للشخوص) الخلجات النفسية تحت وطء العالم بأحداثه، كأن الجحيم هو الآخر بالمعنى الوجودي للكلمة. ولا غرو في ذلك، فالكاتب محمد رفيق يكتب الشعر أيضا، فامتد ذلك للكتابة السردية هنا، حيث بلاغة الإمتاع على أكثر من مستوى جمالي، وأحيانا تتخلل العمل صور شعرية موحية أو حضور النفس الشعري في السرد، كما يسجل حضور اللغة الدارجة في تبئير لبعض الكلمات والتعبيرات التي تصف المعطيات في طراوتها الواقعية، إضافة إلى حضور مقاطع شعرية وسجلات خطابية كالتعليق.

وأكيد أن محمد رفيق كتب هذه الرواية معتمدا على معرفته وتجربته في الحياة بل وتأملاته في الكتابة، فكان العمل غنيا دلاليا ومعرفيا، بل وسرديا أيضا في سعي إلى تجدير الفعل الروائي المحاور للتاريخ والمجتمع، بإعادة صياغة الأحداث والوقائع بين الواقع والمتخيل، وتلك ميزة تتّصف بها هذه الرواية الجديرة بهذا العنوان دون لغط وأضواء.

15