علاء الديب كاتب مصري رسم المثقف بملامح الجاني والمهمش

تاريخيا كانت علاقة المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف متأزمة، تعاني من الشد والجذب، فالطرفان لا يثق أحدهما بالآخر، فالمثقف يخشى على قلمه وحريته وحياته من قمع واستبدادية السلطة ومصالحها، والسلطة تخشى على وجودها من سطوة قلمه وحريته وحضوره المؤثر في الرأي العام.
العلاقة ملتبسة بين المثقفين والسلطة، الأمر الذي جعل المثقف في أغلب الأحيان كائنا متحولا وغامضا وملتبسا ومغتربا يصعب تحديد موقفه جراء ما يعيشه من قهر أو قمع أو خوف، وقد عالج هذه العلاقة كتاب ومفكرون وفلاسفة، وكان للرواية العربية والعالمية حضورها الفاعل والمؤثر في ذلك.
يمكن ضرب العشرات من الأمثلة لروائيين تغلغلوا في كشف هذه العلاقة وملابساتها، من بينهم نجيب محفوظ في رواياته “ميرامار” و”القاهرة الجديدة” و”الكرنك” و”ثرثرة فوق النيل” و”الشحاذ” و”يوم مقتل الزعيم” و”أولاد حارتنا”، وجورج أورويل في روايتيه “1984” و”مزرعة الحيوانات”، وغابرييل غارسيا ماركيز في “خريف البطريرك” و”الجنرال في متاهته”.. وهكذا.
المنهزم والجاني
شخصية المثقف كانت محورا للأطروحة التي حصل بها الناقد والشاعر عمر شهريار على درجة الماجستير من كلية الآداب قسم اللغة العربية جامعة القاهرة، وجاءت بعنوان “التشكيل الجمالي لشخصية المثقف في روايات علاء الديب”، واستهدفت استكشاف طرائق التشكيل الجمالي لشخصية المثقف في روايات الروائي علاء الديب، حيث تعد شخصية محورية في كل أعماله الروائية، ودائما ما تكون شخصية المثقف في رواياته مأزومة ومقموعة ومستبعدة.
ومن ثم سعى شهريار إلى محاولة استجلاء كيفية التشكيل الجمالي لهذه الشخصية المأزومة، سواء في بناء الشخصيات ذاتها، أو في علاقاتها بشخوص العالم الروائي من حولها، أو الفضاءات المكانية التي تتحرك فيها.
ويقول شهريار عن اختيار روايات الديب (1939 - 2016)، الذي يعد واحدا من أهم روائيي كتاب الستينات، محورا لأطروحته أن شخصية المثقف، ابن الطبقة البرجوازية الصغيرة، كان لها حضور مركزي في أعماله الروائية كافة، بما انطوت عليه هذه الشخصية من آمال وطموحات شتى، ورغبات عارمة في تغيير العالم، ثم اصطدام هذه الآمال بالواقع السياسي والاجتماعي، ومن ثم تبرز في كل روايات الديب، تقريبا، شخصية المثقف المأزوم، التائه، المشوش، وذلك منذ روايته الأولى “القاهرة”، مرورا بروايتي “زهر الليمون” و”أيام وردية”، ووصولا إلى ثلاثيته “أطفال بلا دموع” و”قمر على المستنقع” و”عيون البنفسج”.
انهزام المثقف أمام ما شهده المجتمع من تحولات حادة أدى إلى إحساس المثقف في روايات علاء الديب بالاغتراب
يرى شهريار أن الديب عاين في رواياته أزمة المثقف في أزمنة مختلفة، سواء في مرحلة الستينات في روايته “القاهرة”، أو في مرحلة ما بعد هزيمة 1967 التي تركت ندوبا عميقة في شخصياته كلها، وفي المركز منها شخصية البطل المثقف المنكسر، ثم مرحلة ما بعد الانفتاح وهجرة المثقفين إلى الخليج العربي بعد أن تبخرت أحلامهم في مصر، فبدا المثقف ضحية لهذه التغيرات العميقة، والانهزامات المتتالية، وفي الوقت نفسه كان جانيا، لأنه لم يكن على قدر الآمال المعلقة عليه في إحداث التغيير اللازم.
ويشير إلى أهمية شخصية المثقف ومركزيتها في أعمال الديب الروائية، تبرز بوصفه (المثقف) يمثل، عبر تحولاته وانهزاماته، تجليا للتحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمع المصري والعربي، ومن ثم تأتي أهمية دراسة هذه الشخصية المأزومة، وكيفية تشكيلها وبنائها جماليا، خاصة أن روايات الديب ليست أعمالا مباشرة أو خطابية، بل معنية بشكل كبير بتصوير أزمات شخصياتها بشكل جمالي، عبر صياغة هذه الشخصيات وعلاقاتها بالعالم من حولها، أو تشكيل الفضاءات المكانية التي تحيط بهذه الشخصيات في الروايات محل الدراسة.
يركز شهريار في أطروحته بشكل رئيس على المجلد الذي يضم الأعمال الروائية الكاملة للديب بعنوان “6 روايات قصيرة”، والذي يضم ست روايات، هي “القاهرة” و”زهر الليمون” و”أيام وردية” و”أطفال بلا دموع” و”قمر على المستنقع” و”عيون البنفسج”، مؤكدا أنه لا تخلو رواية من هذه الروايات من تجل ما لشخصية المثقف المنهزم، المهمش، فهي الشخصية المركزية والأثيرة لدى الكاتب. ومن هنا تعالج الأطروحة كيفية تشكيل الكاتب لهذه الشخصية جماليا، بعيدا عن الانشغال بتصنيف وتقسيم شخصية المثقف إلى أنماط ثورية أو خاضعة أو سلطوية أو عدمية أو سلبية أو إيجابية.
ويلفت شهريار إلى تعدد أنماط شخصية المثقف في روايات الديب، فثمة المثقف الصدامي المتمرد فرديا ممثلا في شخصية فتحي في رواية “القاهرة”، والمثقف المنسحب ممثلا في شخصية عبدالخالق المسيري في رواية “زهر الليمون”، والمثقف المبعد ممثلا في شخصية “أمين الألفي” في رواية “أيام وردية”، والمثقف الخائن ممثلا في شخصية الدكتور منير عبدالحميد فكار في رواية “أطفال بلا دموع”، والمثقف المستلب ممثلا في شخصية الدكتورة سناء فراج في رواية “قمر على المستنقع”. وهناك أيضا شخصية المثقف المسخ ممثلا في شخصية تامر منير فكار في رواية “عيون البنفسج”.
وإضافة إلى ذلك كانت هناك نماذج للمثقف المقاوم، والمثقف المهاجر إلى الغرب، والمثقف المهاجر إلى الخليج.. هذه الأنماط من شخصيات المثقفين تنوعت طرائق تقديمها سرديا، تارة عبر التقديم المباشر من خلال وجهة نظر الراوي، أو وجهات نظر بقية الشخوص لها، أو وجهة نظر الشخصية المثقفة نفسها في ذاتها، وتارة أخرى تقديمها بطريق غير مباشر عبر وصف أفعال الشخصية ومواقفها وردات فعلها في المواقف المختلفة.
اغتراب المثقف
يرى شهريار أن ثمة محطات فارقة في تحولات شخصية المثقف في روايات الديب، الأولى هزيمة 1967 التي تمثل تحولا مركزيا في شخصية المثقف المصري، وكانت بمثابة هزيمة له، كما كانت سببا في انسحابه من المشهد الاجتماعي والسياسي أو إبعاده وطرده. كما تمثل حقبة الانفتاح الاقتصادي واتفاقية كامب ديفيد محطة تحول ثانية عمقت إحساس المثقف بالهزيمة.
وكانت المحطة الثالثة هي الهجرة الجماعية إلى دول الخليج العربي مع تدفقات النفط، بما مثلته هذه الهجرات من تغير الأنساق القيمية للمجتمع المصري، وشيوع ثقافة الاستهلاك وانتشار وهيمنة الأصولية الدينية على الوعي المصري، بما مثله ذلك من اعتراف المثقف بهزيمته تماما واستسلامه في مواجهة هذه التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وتوصل شهريار إلى أن انهزام المثقف أمام ما شهده المجتمع من تحولات حادة أدى إلى إحساس المثقف في روايات علاء الديب بالاغتراب وعدم التآلف مع كل المحيطين به، بدءا من اغترابه عن أهله وعن شريكته وأبنائه، مرورا باغترابه عن عمله وزملاء العمل وكذلك عن جماعة المثقفين التي ينتمي إليها، وصولا إلى اغترابه عن ذاته وعن العالم، وتعمق إحساسه بعدم قدرته على الاندماج مع المجتمع، لينتهي به الأمر معزولا ووحيدا وبائسا، لا يمكنه التواصل مع أحد.
ويضيف أن نتيجة اغتراب المثقف عن نفسه والعالم، وعن المحيطين به، ونتيجة إحساسه الممض بالعجز والهزيمة، وبأنه غير مرغوب فيه، اغترب أيضا عن المكان، الذي فقد وجوده القديم الدافئ هو الآخر وطالته التحولات التي طالت المجتمع كله، وتركت آثارها عليه، ومن ثم انسحب المثقف وانحبس داخل غرف مغلقة، ضيقة ومقبضة، كانت بمثابة قوقعته التي يعاقب نفسه بالبقاء فيها معزولا عن العالم، وكان خروجه منها إلى العالم يعمق إحساسه بالاغتراب عن الأماكن والشوارع والميادين التي جرى مسخها وتشويهها، وكانت تجليا لما جرى في المجتمع من تحولات.
ويخلص شهريار إلى انتماء معظم مثقفي روايات علاء الديب إلى الماضي، فكل منهم لديه شيء ماضوي يمثل له فردوسا مفقودا، سواء كان حكاية قديمة مثل “رقصة الديك” التي شهدها الدكتور منير فكار في طفولته، أو شجرة الليمون العتيقة التي ارتبط بها عبدالخالق المسيري في رواية “زهر الليمون”، أو الشجرة العتيقة التي ارتبط بها أمين الألفي في “أيام وردية”، أو شوارع “مصر الجديدة” بالنسبة للدكتورة سناء فراج في رواية “قمر على المستنقع”، في حين كان تامر منير فكار بلا جذور وبلا ماض أصيل ينتمي إليه، ففقد ماضيه ومستقبله.
يذكر أن الأطروحة جاءت في أربعة فصول، الأول “المثقف المفهوم والدور”، وركز أولا على استجلاء المفاهيم المتعددة للثقافة، ثم على علاقة ثقافة الفرد بثقافة المجتمع كبنية مهيمنة، ثم يسعى إلى استجلاء المفاهيم المختلفة للمثقف، ثم الوقوف على تصورات المنظرين حول دور المثقف ووظيفته، وكذا يحاول استكشاف أزمة المثقف العربي بشكل خاص.
والفصل الثاني “بناء الشخصية وصياغتها” استجلى أنماط شخصيات المثقف في روايات علاء الديب، وتوقف عند عدد من الأنماط، هي المثقف المتمرد فرديا والمثقف المنسحب والمثقف المبعد والمثقف الخائن والمثقف المستلب والمثقف المسخ والمثقف المقاوم والمثقف المهاجر.
الفصل الثالث “المثقف والجماعة” ركز على استجلاء آيات اغتراب مثقفي روايات الديب عن الجماعة والمجتمع من حوله، واستكشاف اغترابه عن أهله وزوجته وأولاده، واغترابه عن زملاء عمله وعن جماعة المثقفين، واغترابه عن العالم كله بشكل عام. وأخيرا سعى الفصل الرابع “أمكنة المثقف” إلى الوقوف على أمكنة المثقف وكيفية تشكيلها جماليا، وعلاقتها باغتراب المثقف وإحساسه بالهزيمة والعجز، وما طال هذه الأمكنة من تشوهات تتصادى مع التشوهات التي طالت المجتمع كله.