عفوية عبدالمجيد وضرورات تبون

في ارتجال امتزجت فيه المشاعر بالانطباع الشخصي أعاد الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون علاقات بلاده مع فرنسا إلى ما قبل مربع الصفر، بعدما استغل خطاب الأمة أمام نواب البرلمان، ليعبر عن انطباع شخصي أكثر من كونه موقف رئيس دولة.
انقسم الجزائريون بين مستغرب مما ورد على لسان تبون، بشأن الكاتب الفرانكوجزائري بوعلام صنصال، وبين منتش بالكلام الذي كان يريد أن يقوله أمام الرأي العام، الذي ساوى بين ثوار جبهة التحرير خلال حرب التحرير وبين منتسبي التنظيمات الجهادية كداعش والقاعدة، وزعم أن جزءا من تراب الجمهورية هو ملك لبلد آخر.
تبون الرئيس رغم قضائه أكثر من خمس سنوات في قصر المرادية، لم يتخلص من عفوية وانفعالات عبدالمجيد، ففي كل خطاب أو تصريح يخرج الرجل عن النص المبرمج، ليثير الجدل بتعابير ومفردات تعكس شخصية الرجل الذي لا يطيق التحفظ السياسي والرسمي على ما يبدو، فيعبر عما يجول في خاطره وفي خاطر الكثير من الجزائريين ومن أنصاره.
من لم يصنع التاريخ لا يمكنه كتابته، ومن بذل جبال الجماجم وأنهار الدماء من أجل حريته ليس كمن حصّل استقلاله بوثيقة كاتب عدل، لكن ليس بالتاريخ وحده تعيش الشعوب، فهناك أمم شيدت حضارات لكنها اندثرت لأنها لم تفهم لغة عصرها
أثناء حملته الدعائية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة فتح قوسا مع مصر اضطر القائمون إلى غلقه بتوضيح ما ورد على لسانه للسلطات المصرية، بشأن إعاقة غلق النظام المصري للحدود مع قطاع غزة أمام الجيش الجزائري، ورغم استطراده بأن جيش بلاده على أهبة تامة لتشييد ثلاثة مستشفيات ميدانية في ظرف 20 يوما، إلا أن المسألة تم تأويلها في دوائر سياسية وإعلامية عربية ودولية على أنها تلويح بتدخل الجيش الجزائري في حرب غزة.
والآن يفتح قوسا آخر مع الفرنسيين من الصعب غلقه، فهو إلى جانب تذكيره بالسردية التاريخية والهمجية الاستعمارية، التي تشغل مكانة خاصة في المخيال الجزائري ولا يختلف فيها اثنان، وضع خطاب الدولة في مستوى شخص مهما كانت أهميته لا يمكن النزول إليه، أو أن يكون محل اهتمام وانشغال دولة محورية في المنطقة، وتواجه تحديات كبيرة.
من الصعب هضم تصريحات تطعن في تضحيات جسيمة في سبيل حرية وطن، أو في سيادة بلد من طرف شخص وظف أدبه بشكل غير مؤدب في خدمة أغراض وأطماع مدفونة، لكن لا الجزائر ولا مؤسساتها اللتان تعبران عن انزعاجهما بهذا الشكل، لأنه في النهاية العالم ليس جمعية خيرية، والعبرة في حماية سيادة الوطن من التهديدات الكبرى، وليس من تصريح كاتب ظل مغمورا ويبحث عن الشهرة، حتى لو كان ذلك باللعنات والسب، حيث لما خانته ملكته الأدبية أطلق العنان للسانه للطعن في كل ما هو جزائري قيما وثوابت وثقافة.
في تقاليد وأعراف الدبلوماسية لا يمكن رهن علاقات إستراتيجية برأس شخص أو أشخاص، فكل الركام التاريخي بين الجزائر وفرنسا يقابله ركام آخر من المصالح المشتركة، فإلى غاية عام فقط بلغ التبادل التجاري بين البلدين سقف الـ11 مليار دولار، وهناك على الأراضي الفرنسية يعيش ثلاثة ملايين مهاجر جزائري، ونحو سبعة ملايين بحساب مزدوجي الجنسية، وذلك كله وعاء اجتماعي واقتصادي يستوجب أخذه بعين الاعتبار.
تبون الرئيس رغم قضائه أكثر من خمس سنوات في قصر المرادية، لم يتخلص من عفوية وانفعالات عبدالمجيد، ففي كل خطاب أو تصريح يخرج الرجل عن النص المبرمج، ليثير الجدل بتعابير، فيعبر عما يجول في خاطره وفي خاطر الكثير من الجزائريين
ظل القرار الفرنسي يحافظ على مبدأ التوازن في علاقاته مع الجزائر والمغرب، والآن جاءت طبعة الرئيس إيمانويل ماكرون، لتختار كفة الرباط على حساب الجزائر لأسباب ودواع يعرفها الطرفان، والجزائر بأوراقها الطبيعية والإستراتيجية يمكنها وضع بيضها في سلال عديدة بدل السلة الواحدة، ويمكنها أيضا الحفاظ على التوازن بين عقيدتها ومصالحها.
من لم يصنع التاريخ لا يمكنه كتابته، ومن بذل جبال الجماجم وأنهار الدماء من أجل حريته ليس كمن حصّل استقلاله بوثيقة كاتب عدل، لكن ليس بالتاريخ وحده تعيش الشعوب، فهناك أمم شيدت حضارات لكنها اندثرت لأنها لم تفهم لغة عصرها، وسيادة الجزائر لن تتحقق بالإلحاح على الفرنسيين من أجل الاعتراف والاعتذار، ما دام بالإمكان كتابة التاريخ كما تريد، بل بتأكيد القدرة على تحصيل الحرية بعد قرن وثلث قرن من الاستعمار، بقدرة مماثلة على تحصيل الاستقلال.
دموع عبدالمجيد في خطاب الأمة هي دموع الجزائريين، الذين يريدونه تبون الرئيس القوي بقوة بلده وشرعية شعبه، والفخور بأمجاد آبائه وأجداده، والابن الذي يشيد استقلالا يسعد الأصدقاء ويهابه الأعداء، أما بوعلام صنصال وغيره فليسوا إلا مجرد ذباب يزاح في صمت، بدل أن يتحولوا إلى أبطال يضعون الممهلات في طريق الجزائر نحو علاقاتها وشركائها.
خطاب الأمة أمام البرلمان وكبار مسؤولي الدولة تزامن مع طي صفحة ولاية رئاسية وفتح صفحة ولاية أخرى، وهي محطة تستدعي وقفة للتقييم والتقويم، فليس ما أنجز كافيا، وليست كل الوعود تلبي انتظارات الجزائريين، التواقين حقيقة إلى جزائر جديدة ومنتصرة بالأفعال وليس بالأقوال، لاسيما وأنهم في حاجة إلى روح التضحية من أجل الاستقلال والبناء، بنفس الروح التي حررت أرضهم من الاستعمار.