عفوا سيدي القارئ

الشعب يدري والحكومة تدري، لكن الصعوبة تكمن في كيفية طرح الموضوع.
الثلاثاء 2023/03/14
لا حراك شعبي سوف يقوم على غرار "ثورة الخبز"

هل تعلم، عزيزي غير القارئ، أن أرخص سعر للخبز في العالم هو في تونس الشقيقة، أي ما يقارب العشرة سنت من الدولار الأميركي من خبز القمح الأميركي ـ أو حتى الأوكراني ـ المطحون والمعجون والمخبوز بأياد تونسية باتت اليوم أمهر من يعدّ الخبز في العالم، ويأكل من تحت أصابعها سيد قصر الإليزيه في باريس.

وهل تعلم أيضا، إن كنت لا تقرأ التاريخ، أن ثورة الخبز قامت في تونس سنة 1984 بسبب رفع الدعم عن الخبز الذي أصبح سعره مضاعفا آنذاك. والتهب الشارع التونسي من جنوبه إلى شماله، مما اضطر الرئيس الحبيب بورقيبة أن يتراجع عن قرار حكومته ويعتذر لشعبه قائلا عبارته الشهيرة “نرجعُ كما كنّا”.

كانت حجة الحكومة التونسية وقتئذ، أن قال عمدة مدينة تونس زكريا بن مصطفى، متذمرا لبورقيبة: إن الخبز صار يُلقى في القمامة يا سيادة الرئيس.

تراجع الزعيم المكابر عن قراره فخرجت الجماهير تهتف باسمه وكأن شيئا لم يكن، لكن الحكومة ما لبثت بعد أيام قليلة أن زادت في أسعار الخمور متذرعة بأنها “أم الخبائث” و”منكر من عمل الشيطان”.

لم يحتج أحد من التونسيين العاشقين التواقين لمباهج الدنيا على فعلة الحكومة تلك، وهم في غفلة منهم، إلا أن أحد أقربائي الظرفاء، وكان عضوا في البرلمان، جاهر بصوته تحت قبة قصر باردو، محتجا: قلتم نرفع في سعر الخبز لأنه صار مرميا في القمامة فقبلناها عن مضض، ومع ذلك خرج الشعب غاضبا، فقولوا لي بربكم، من لقي منكم يوما، زجاجة نبيذ ملقاة في القمامة؟

سكت جميع أعضاء الحكومة والبرلمان وكأن على رؤوسهم الطير، بمن فيهم رئيس المجلس آنذاك، المفكر الراحل محمود المسعدي، والمعروف بتمجيده للمشروبات الروحية في كتاباته.

اليوم، ومع اقتراب الشهر الفضيل، على وجه الخصوص، لا يحق لأي إعلامي تونسي الاقتراب من هذا الموضوع في معرض تشكي الجميع صباحا مساء، من غلاء الأسعار والشطط في ارتفاع أثمان المشروبات “البريئة وغير البريئة”.

الشعب يدري، والحكومة تدري، لكن الصعوبة تكمن في كيفية طرح الموضوع.. تماما كالنكت والطرائف التي تتمحور حول حرج مرضى الأعضاء التناسلية أمام الأطباء والصيادلة.

صحيح أن الخمور ـ مثل التبوغ ـ مضرة صحيا ومدانة أخلاقيا في أعراف كل المجتمعات، خصوصا الإسلامية منها، لكن تعاطيها قائم “على أكثر من قدم وساق”، ولا بأس من التحدث فيها على الملأ وبصوت عال، وينبغي عدم تجاهلها فنصبح كمن يضع رأسه في الطين.

وصحيح أن لا حراك شعبيا سوف يقوم باسم “ثورة الخمر” على غرار “ثورة الخبز”، لكن ارتدادات الغلاء الفاحش في هذه المادة بدأت واضحة وخطيرة لأن لا بديل عنها لدى متعاطيها، سوى الأخطر منها.

18