عفاف زريق رسامة تجريدية لا تفارق عينها الطبيعة

غالبا ما تشكل مكانة الآباء العالية عقبة أمام تقدم الأبناء. قسطنطين زريق (1909 - 2000) مؤرخ ومفكر سوري هو أشهر دعاة القومية العربية في العصر الحديث، ليس من اليسير تجاوزه لكن تعريف أبنائه من خلاله فيه الكثير من الإجحاف. علاقة ملتبسة من هذا النوع خرجت منها ابنته الفنانة عفاف زريق بنتائج عميقة في إنسانيتها وذات دلالة جمالية مستقلة.
استغرقت زريق في نبش أسرار تلك العلاقة حين أصدرت عام 2010 كتابا بعنوان "أبي" وأقامت في الوقت نفسه معرضا بعنوان "تأملات أبي".
في ذلك المعرض حرصت الفنانة على أن تنوع في أدائها في سياق موهبتها التي تتوزع بين الرسم والكتابة والنحت والتصوير والخزف. كان معرضا شاملا حاولت زريق من خلاله أن تكتب الرسالة إلى أبيها كاملة "هي ذي أنا كما أظهر في مرآتك".
صباحها قصيدة
حين أقامت معرضا استعاديا لأعمالها في بيروت عام 2019 حمل عنوان "رحلات العودة"، كتبت لور غريب قبل ذلك المعرض بسنوات "رسومها تخترع الصباح برفق كأنه قصيدة". تلك جملة شعرية غير أنها تذهب إلى هدفها مباشرة. فعالم عفاف زريق يفيض شعرا، من خلاله تتم إعادة بناء العالم بصريا بعد أن تُشحن مفرداته بجمال مستعار من أمكنة مجهولة.
زريق تشبّه الرسم بعملية التقطير البطيئة. لذلك ترغب في أن لا توحي رسومها بالاكتمال كما لو أنها لا تزال في طور التشكل
ذلك ما يلقي بظلال من الغموض على أعمالها. تُشبّه الفنانة الرسم بعملية التقطير البطيئة. لذلك ترغب في أن لا توحي رسومها بالاكتمال كما لو أنها لا تزال في طور التشكل.
يمكننا أن نتوقع حين النظر إلى رسومها أن هناك ما يقع تحتها. تحت سطوح أعمالها التي تجمع بين الخطوط والتبقيع تقيم وجوه بشرية ومفردات بصرية تظهر أحيانا وإن في هيئة أشكال متوهمة. "مثل طفل يحدق في شيء ما، يمكنني رؤية خط، لون، ظل" تقول كما لو أن العالم الذي ترسمه هو محض ارتجال بصري.
أحلامها بالأسود والأبيض لا تتعارض مع شغفها بالطبيعة. حين تتحدث زريق عن الرسم سرعان ما تنزلق إلى الطبيعة. هناك حيث تقع الحياة الممكنة دائما. أنت ترسم، إذاً أنت تفتح بابا على حدائق سرية. ذلك هو عالمها. يبدأ بالرسم وينتهي بالطبيعة.
الرسم من الداخل إلى الخارج
ولدت زريق في بيروت عام 1948. أكملت دراسة الفنون الجميلة بالجامعة الأميركية عام 1970. تابعت دراساتها العليا في جامعة هارفارد وحصلت على درجة الماجستير عام 1972. بعدها عادت إلى بيروت لتقوم بتدريس تاريخ الفن في كلية بيروت الجامعية والرسم والتصوير في كلية كوركوران للفنون والتصميم وكذلك جامعة جورج تاون وكلتاهما في واشنطن. بعد ذلك انتقلت للتدريس في الجامعة الأميركية.
يمكننا أن نتوقع حين النظر إلى رسومها أن هناك ما يقع تحتها. تحت سطوح أعمالها التي تجمع بين الخطوط والتبقيع تقيم وجوه بشرية ومفردات بصرية تظهر أحيانا وإن في هيئة أشكال متوهمة
أقامت معرضها الأول في بيروت عام 1978 وكان مخصصا للأصباغ المائية على الورق. بعد ذلك المعرض أقامت أكثر من عشرة معارض بين بيروت وواشنطن.
"المنظر من الداخل" هو عنوان كتابها الذي أصدرته عام 2019 تزامنا مع معرضها الشخصي الذي أقامته في بيروت. ولكن ما معنى أن يكون المنظر من الداخل؟ تقول عفاف "تظهر الصورة ببطء من بين حطام التفاصيل. يبدو أن كل شيء يأتي من الداخل بصدق ومن غير جهد. نادرا ما تبتلع لوحة واحدة الفراغ كله".
العلاقة بالفراغ هي الفكرة المركزية في عالمها. ولأنها غالبا ما تعمل على سلسلة لوحات ذات صلة في ما بينها فإنها تقول "الرسم في سلسلة هو نتيجة الهوس. يسمح لي ذلك بالتعبير عن صورة واحدة من وجهات نظر متعددة. ببطء وبشكل مؤلم يحدث التقطير الكامل". يمكننا من خلال ذلك التوضيح الدقيق أن نتعرف على الطريقة التي تبني الفنانة من خلالها عالمها. فلوحاتها وإن بدت وكأنها تتحرك في الموقع نفسه فإن النظر إليها بدقة لا بد أن يجعلنا ندرك عمق التجربة التي تعيشها الفنانة وهي تسعى لتجريد الألم من أسلحته من خلال تصويره كما لو أنه شيء يُرى. تقول زريق "لوحتي أرسمها من الداخل إلى الخارج".
عودة إلى الحدائق السرية
"واصلت الرسم من الداخل بينما كنت أرسم خارطة داخلية للتناقضات متعددة الطبقات التي أضاءت حياتي لسنوات قادمة"، تصف الفنانة ما حدث لها على مستوى التفكير في الفن وهي تواجه الحرب التي وقفت بينها وبين حديقتها الوهمية التي هي مصدر إلهامها.
يومها قررت أن تغادر إلى واشنطن من غير أن تحتاج إلى ذريعة. كانت تلك الفكرة عبارة عن رحلة إلى الداخل عن طريق الخارج. "حياتي في الفن هي عودة دائمة إلى ما يتردد في داخلي وما يدفعني إلى فتح بوابات حدائق غير معروفة"، بمعنى الذهاب إلى المجهول. ذلك الفهم ما يمكن أن يعين متلقي أعمالها على عدم البحث عما يمكن أن يكون صحيحا في سياق نزهته الجمالية. فالرسامة هي الأخرى لا تعرف إلى أين تمضي.
في سياق البحث عن مخرج لتلك الأزمة الوجودية التي عاشتها أثناء الحرب، قريبا منها أو بعيدا عنها نجحت الفنانة في إقامة أواصر قوية بين الكتابة والرسم وهو ما أخضعته لمقاييسها في ابتكار عالم يكون بمثابة مرآة لتجربتها. صار التعايش بين الكاتبة والرسامة ضروريا لكي تكتمل التجربة.
ترسم زريق وتكتب لتقول الشيء نفسه. وهي حين تكتب لا تشرح ما رسمته كما أنها حين ترسم لا توضح ما كتبته. العلاقة بين فعلَي الكتابة والرسم عضوية إلى درجة لا يمكن الفصل بين عناصرها. لا تكتب زريق لكي تقول شيئا مختلفا عما ترغب في قوله من خلال الرسم. العالم هو نفسه. الطبيعة التي تظل تستقبل "رحلات لا نهاية لها من المنفى والشراكة، من الحب والانفصال".
أحلامها بالأسود والأبيض لا تتعارض مع شغفها بالطبيعة. وحين تتحدث زريق عن الرسم سرعان ما تنزلق إلى الطبيعة
نشرت زريق ستة كتب لم تكن مستقلة عن عالمها الفني. الأول هو "أبي". ذلك الكتاب هو محاولة لفهم علاقة معقدة وتكوينية بين الأب وابنته، تفحص عفاف من خلالها بصريا مفهوم الوقت بين الفنانة والمؤرخ.
الكتاب الثاني عنوانه "لوفسونغ". ذلك كتاب يمزج بين الشعر والرسم. ومثله جاء الكتاب الثالث "قصائد مرسومة" الذي صدر عام 2012 بـ"500 نسخة. أما "رحلات العودة" فهو كتابها الرابع الذي صدر تزامنا مع معرضها الاستعادي الذي احتضنته قاعة صالح بركات ببيروت. أما "رسم بالضوء" فهو حوار بين الصورة والكلمة، بين التجربة والفكر. و"ما وراء الفن" هو كتابها السادس الذي تمزج فيه الرسم بالكتابة.
كتبت زريق للتعرف على رسومها لا من أجل التعريف بها كرسامة. غير أن ذلك لا يعني أن الكاتبة تضع نفسها في خدمة الرسامة. هناك علاقة وجودية تتسم بشفافية من نوع أخاذ. سيكون "المنظر من الداخل" هو الأكثر جذبا. لم تكن الحياة في الخارج لتستحق أن تُرسم. تلك الفكرة التي تخلق إطارا لحيرة من نوع مختلف. تكتب وترسم لتهتدي إلى بيروت التي ضاعت تحت دخان الحرب.
"أركز فني في ثروات إنسانيتنا الأساسية مع احترام قدرتنا على التوافق مع حقيقتنا الداخلية وتخيلها"، لا يزال هناك أمل إذن. ذلك ما تقوله الفنانة التي ترسم وهي على يقين من أننا نرى أن هناك عالما يقع وراء ما ترسمه هو أكثر غنى مما نراه. ستكون الرسامة سعيدة بما كتبته، أما الكاتبة فإنها ستنظر بغبطة إلى ما فعلته الرسامة.