"عصر الغضب".. ست مسرحيات موحّدة تعكس التشاؤم المطلق

في مسرح لافيلات بالعاصمة الفرنسة باريس كان لعشاق المسرح لقاء مع مسرحية “عصر الغضب” التي يواصل فيها المخرج البلجيكي الشهير إيفو فان هوف سلسلة أعماله عن عنف الأتروديين في الميثولوجيا اليونانية، وإسقاطها على الحاضر.
من عمل إلى آخر، يواصل المخرج البلجيكي الشهير إيفو فان هوف مدير فرقة المسرح العالمي بأمستردام تقديم أعمال ضخمة مستوحاة من شخصيات تاريخية، لمساءلة المجتمع والسلطة السياسية وسيرورة التاريخ، ويستحضر الأساطير القديمة لمعالجة الراهن.
وبعد “تراجيديات رومانية” و”ملوك الحرب”، يعود إلى الميثولوجيا الإغريقية وإلى سلالة الأتريديين التي بدأها قبل عامين بمسرحية “إلكترا/أوريستس” في الكوميدي فرانسيز.
والأتريديون، كما جاء في الميثولوجيا اليونانية، هم نسل أتريوس، وقد عرف عنهم القتل وقتل الأب وقتل الابن وزنا المحارم، نتيجة لعنة إلهية، ولم توقِف سلسلة العنف تلك سوى أثينا إلهة الحكمة التي أذنت بمحاكمة أوريستس، قاتل أمه كلوتايمسترا وعشيقها.
مزج فان هوف في عمله الجديد “عصر الغضب” بين ستّ مسرحيات ليوريبيدس (480 – 406 ق م): إيفيجينيا في أوليدي، الطرواديات، هيكابي، إلكترا، أوريستس؛ ومسرحية لإسخيلوس (525 – 456 ق م) هي أغاميمنون، للعودة إلى جذور الدوامة الجهنمية التي غذّاها أخلاف أتريوس واكتووا بنارها في الوقت نفسه، والوقوف على الأسباب التي دفعت فئة من الناس، رجالا ونساء، إلى القتل، ثأرا في الغالب، والدخول في نوع من الديناميكية الانتقامية التي ما فتئت تزداد راديكالية.
وقد استطاع فان هوف أن يصوغ منها نصا موحّدا يدوم ثلاث ساعات ونصف الساعة، دون أن يغمط ما يميّز كل شخصية، وما عاشته من مآس، مستعينا بشجرة جينيالوجية (شجرة العائلة) حاضرة طيلة العرض، ليصوّر في تسلسل يكاد لا ينقطع التضحيات التي ولدها طبع قاس وعنيف فرض على مصائر الأتروديين.
فالجميع، قتلة وضحايا، يلتقون في سمات عديدة، فقد يكون الضحايا أبرياء براءة تامة كحال إيفيجينيا وبوليدوروس ابن بريام وأختيه كاسّاندرا وبوليكسيني، أو هي محل نظر كحال كلوتايمسترا وأغاميمنون، غير أنهم لا ينفكون يغذون، في دوامة الحنق الذي يبلغ مبلغ السعار أحيانا، تعطشا إلى سفك الدماء الذي بدا أنه لا يتوقف، لكون العنف بلغ بأصحابه نقطة لا ترتجى منها عودة.
وفان هوف يقرّب أولئك الأبطال التراجيديين من المُتفرج ويخلع عنهم إهاب الأسطورة، ليصوّر الجانب الآدميّ فيهم. فأغاميمنون مثلا، وهو في مرفأ أوليدي ينتظر لحظة الهجوم مع رجاله على طروادة، يتبدّى كأب ممزّق بين سلطته وابنته، قبل أن يكون قائد حرب لا يقاوَم. ومنيلاوس يتبدّى ملكا عاريا وضعيفا، وتبدو كلوتايمسترا أمّا يتفطر قلبها كمدا على تضحية ابنتها إيفيجنيا، ومثلها هيكابي وهي ترى أبناءها يموتون الواحد بعد الآخر.
بتلك الشخصيات الميثولوجية، يقدّم فان هوف صورة عن الإنسان في وجهه الشرير، حين تستبد به نزعة القتل، ويتداعى إلى نوع من البدائية، وحتى الحيوانية؛ ويكشف في موازاة ذلك عن السلطة، سلطة الجماهير، التي يمثلها الشعب حينا، ويمثّلها الجيش حينا آخر، حين تُخضع لمشيئتها قادة ضعافا، لا همّ لهم سوى التمسك بالسلطة، وكأنهم محصورون بين مطرقة اللعنة الإلهية وسندان النزوات الشعبية.
في عمق الخشبة ما يشبه دكان حدادة حيث نار تشتعل وأطياف تتحرّك، وكأننا إزاء مدخل غريب لعرين إله. فالمشهد العام مشهد قيامي، على غرار مدينة طروادة وهي تحترق بعد أن دمّرها اليونانيون، وهي التي يصوّر النص جانبا من تداعيات أحداثها خلال حصار دام عشر سنوات.
وفي ألوان ساطعة ومشاهد مرعبة يتبدّى الممثلون ملطخين بالدماء والأوحال، وهم يتقمّصون أدوار الأتروديين في مرحلة انحطاطهم، بعد سلسلة من الاغتيالات التي طالت أفراد تلك الأسرة الملكية، كلعنة سببها جدهم طنطالوس الذي تحدّى الآلهة حين قدّم لهم أحدَ أبنائهم طعاما يأكلونه، فحلّت به لعنة أبدية أصابته وأصابت نسله من بعده، حيث انخرط الأبناء والأحفاد في سلسلة من القتل والثأر.
وبذلك صار العنف بأيدي أصحاب السلطة، ملوكا وملكات، قادة جيش وأقارب ينشدون العدالة. فإذا بالمتفرّج يجد نفسه في حلبة صراع دام، يتنافس فيها المتنازعون في ارتكاب العنف الشديد والقتل الفظيع جيلا بعد جيل.
“عصر الغضب” عمل مسرحي يصوّر بعمق الثورة والعنف واليأس والقنوط. في إخراج سينمائي مذهل يضع إيفو فان هوف في قلب الأحداث ملاعين التراجيديا الإغريقية وهم يسعون سعيا محموما لفرض ذواتهم باستعمال العنف، ليقدّم لنا ملحمة قوية بصريا ومسرحيا عن مصائر تلك السلالة الملكية التي حلّت بها لعنة الآلهة، وعاشت آثارها الأليمة بشكل متوال. مثلما يضع أعضاءُ فرقته كل طاقاتهم لينقلوا بحمية عمليات القتل التي لا تنتهي، في عروض كوريغرافية متناسقة تعكس أنفاس الغضب والهياج التي تجمح بالشخوص، على إيقاع موسيقى الروك الصاخبة.
ولئن أبرزت “عصر الغضب” المصير الحتمي للمدينة (بالمعنى الأفلاطوني) وأسرها المؤسّسة بعد أعوام طوال من الحرب، فقد قدّمت أيضا رؤية لعالمنا وآليات العنف فيه التي تُقصي وتنفي أناسا وفئات وجماعات، ذلك أن الحكّام حين يواجهون رغبة حلقة أو جماعة أو شعب في التحرّر، يفضلون المواجهة على التشاور والتفاهم، لكونهم أسرى رهانات السلطة وأطماع الهيمنة.