عشرون عاما في الكرملين: عصر بوتين بامتياز

نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طيلة عقدين من الزمن حكم فيهما بلاده، في فرض نفسه كمعادلة سياسية صعبة داخليا وخارجيا بالنظر إلى ما لعبته موسكو من أدوار كبرى في مختلف القضايا الإقليمية والدولية، لكن الرجل الذي يمارس صلاحياته كما لو كان سلطانا وليس رئيسا منتخبا، أصبح يفكّر الآن بجدية في مستقبله بعد نهاية ولايته في عام 2024 باعتبار أنها آخر ولاية له بحسب الدستور الروسي، ورغم ما يجابهه من معارضة شرسة مرفوقة باحتجاجات شعبية بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، فإن بعض الخبراء يرجّحون أن يقدم بوتين على إنشاء هيكل حكم جديد في الفترة القادمة تضمن له مواصلة النفوذ في صناعة القرار الروسي.
موسكو- يجمع جل المتابعين للشأن السياسي الدولي طيلة العقدين الأخيرين على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تمكّن في فترة حكمه من خلق توازن حقيقي داخل التوازنات الدولية عبر إعادته التنافس الكلاسيكي مع الولايات المتحدة والتسابق نحو ريادة العالم.
لكن في السنوات الأخيرة، وتحديدا في الأشهر القليلة الماضية، بدا الشارع الروسي أكثر غليانا من السنوات الأولى لحكم بوتين حيث عمت المظاهرات المدن الروسية احتجاجا على تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ورغم ذلك ظل بوتين يحافظ على نسبة هامة من شعبيته التي حصّلها طيلة عشرين عاما.
وتمكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمعروف برجل المخابرات الروسي، من ملامسة السلطة قبل عشرين عاما حين عيّنه الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين رئيس وزرائه الرابع في أقل من 18 شهرا، وكان بوتين آنذاك رئيسا غير معروف نسبيا لجهاز الاستخبارات ودون خبرة واسعة في السياسة.
كان يلتسين وقبل رحيله عن السلطة يبحث عن خلف له، وقلة توقعوا أن يظل بوتين على رأس السلطة بعد عقدين ويلعب دورا أساسيا في الشؤون العالمية. ولكن هذه الذكرى تحل في فترة صعبة للرئيس الروسي. فرغم أن معدلات شعبيته لا تزال عالية مقارنة مع معظم نسب التأييد للقادة الغربيين إلا أنها تراجعت بعض الشيء بسبب جمود الاقتصاد وتدني مستويات المعيشة.
كما أن حركة الاحتجاج في موسكو أدت إلى توقيف الآلاف من الأشخاص في الأسابيع الماضية في أوسع حملة قمع منذ موجة التظاهرات ضد بوتين التي عمت العاصمة عند عودته إلى الكرملين عام 2012 بعدما كان رئيسا للوزراء. الدليل على الوضع المحرج الذي يعيشه بوتين الآن وهو يفكر بتأمين مستقبله السياسي بعد عام 2024، أن استطلاعا للرأي صدر مؤخرا عن “مركز ليفادا” أظهرت نتائجه الاثنين أن الروس لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه الحكومة السوفييتية البائدة أكثر من حكومتهم الحالية.
وتمكّن من شملهم الاستطلاع من اختيار 5 خصائص من قائمة تضم أكثر من 20 صفة لوصف كل حكومة. وكانت الصفات الأربع المميزة للحكومة السوفييتية جميعها إيجابية، أما بالنسبة للحكومة الحالية فقد كانت صفاتها المميزة التي اختارها المستطلعة آراؤهم جميعها سلبية.
وقال 29 بالمئة ممن شاركوا في الاستطلاع إن الحكومة السوفييتية كانت “قريبة من الشعب”، بينما قال 25 بالمئة إنها كانت قوية ورأى 22 بالمئة أنها كانت “صائبة” وقال 20 بالمئة إنها كانت “شرعية”.
بينما قال ما يقرب من نصف المشاركين في الاستطلاع (41 بالمئة) إن الحكومة الحالية “إجرامية وفاسدة”. وكانت الخصائص الثلاث التالية هي أنها “بعيدة عن الشعب” (31 بالمئة) و”بيروقراطية” (24 بالمئة) و”قصيرة النظر” (19 بالمئة). وأشار 15 بالمئة فقط من المستطلعة آراؤهم إلى أنهم يعتقدون أن الحكومة الحالية شرعية.
وساهمت الصراعات الاقتصادية وما يتصل بها من إصلاح نظام المعاشات الذي رفع سن التقاعد خمس سنوات في تكوين صورة مظلمة للسلطات منذ انتخاب الرئيس فلاديمير بوتين العام الماضي لولاية رابعة في منصبه.
لكن الرئيس الروسي البالغ من العمر 66 عاما يواجه أيضا معضلة تحضير خلافته. فهذه آخر ولاية رئاسية له بحسب الدستور لكن بعدما استبعد كل منافسيه وهيمن على معظم وسائل الإعلام، يبدو أنه ليس هناك شخصية جاهزة لخلافته.
يرى محللون أنه من غير المرجح أن يسلم بوتين الذي تولى أطول فترة حكم في روسيا منذ جوزيف ستالين، السلطة بشكل كامل عند انتهاء ولايته في 2024. كان الوضع مختلفا جدا حين فاز بوتين بأول انتخابات رئاسية خاضها بعد استقالة يلتسين المبكرة ليلة رأس السنة عام 2000.
وقال الصحافي البارز نيكولاي سفانيدزي الذي أجرى عدة مقابلات مع بوتين حين تسلم السلطة أول مرة في الكرملين إن “روسيا ورغم فقرها ومشاكلها مع الجريمة، لا تزال دولة ديمقراطية وليبرالية”. وأضاف “بعد 20 عاما في السلطة، هو لا يواجه أي قيود بأي شكل كان، هو عمليا سلطان”.
من جهته يقول المحلل السياسي كونستانتين كالاتشيف، إن بوتين بدأ كليبرالي على استعداد للعمل مع الغرب لكن مع مرور الزمن تحوّل إلى محافظ أكثر متخذا مواقف أكثر عدائية. وبعد الثورة البرتقالية في أوكرانيا التي اعتبر الكرملين أنها كانت مدعومة من حكومات أجنبية للحد من نفوذ روسيا في الجمهوريات السوفييتية السابقة، تغير موقف بوتين.
وقال كالاتشيف إن موقف الغرب المستخف حيال روسيا وكذلك تدخله في العراق وليبيا وأماكن أخرى في العالم أدى إلى تغير موقف بوتين.وأضاف “أعتقد أن خيبة أمله كانت وراء هذا التغير نحو نهج أشد”.
لكن الليبراليين الروس كانوا يشعرون منذ البداية بالقلق حيال موقف الرئيس وليس فقط بسبب ماضيه كرجل استخبارات وإنما بسبب قمعه الانفصاليين الشيشانيين حين كان رئيسا للوزراء. ولا تزال تدور تساؤلات حول سلسلة من التفجيرات الدامية التي استهدفت مجمع مبان سكنية روسية ونسبت إلى الانفصاليين لكن البعض يزعم أن أجهزة الاستخبارات نفذتها كغطاء لتدخل عسكري إضافي في الشيشان.
يجري التفكير في روسيا بإنشاء هيئة جماعية لتوجيه البلاد، على أن يبقى بوتين رئيسها على الدوام في نظام مماثل لجمهورية كازاخستان السوفييتية السابقة
وأدى رد بوتين الحازم على هذه الأزمة إلى ارتفاع كبير في شعبيته لدى الرأي العام وساعده على الانتقال من وضع رئيس بالوكالة إلى رئيس منتخب بنسبة 53 بالمئة من الأصوات.
ولا يزال يحظى بتأييد شعبي كبير لدى شرائح واسعة من الرأي العام الروسي التي ترى فيه الرجل الذي أعاد لروسيا عزتها بعد الانهيار المذل للاتحاد السوفييتي، والذي ضمن استقرار البلاد بعد التغييرات في التسعينات.
يقول المحلل والمعلق الإعلامي غريغوري بوفت إن بوتين وفريقه يسعيان الآن لإيجاد سبيل يتيح لهما الحفاظ على نفوذهما بعد الخروج من الكرملين. وأوضح أن هذا يمكن أن يتم عبر إقامة مؤسسة جديدة بدلا من عودة قصيرة إلى دور رئيس الوزراء للالتفاف على القيود الدستورية على الرئاسة كما حصل في العام 2008.
وتابع “يجري التفكير بإنشاء هيئة جماعية لتوجيه البلاد، على أن يبقى بوتين رئيسها على الدوام” في نظام مماثل لجمهورية كازاخستان السوفييتية السابقة حيث تنحى الرئيس نور سلطان نزارباييف لكنه يحتفظ بنفوذه في البلاد. لكن إذا حصل هذا الأمر فإن بوتين سيكون بعيدا عن تسيير الشؤون اليومية لروسيا. وخلص بوفت إلى القول بأنه “سيواصل مراقبة شؤون البلاد، ودوره يقوم على إنجاز مهمته التاريخية”.