عزت عمر: التجاوب مع الحداثة يتفاوت من شاعر إلى آخر في الإمارات

يتمتع المشهد الشعري الإماراتي الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من المشهد الشعري العربي قديمه وحديثه بثراء وتنوع تجلياته على مستوى أشكال القصيدة سواء الكلاسيكية العمودية أو شعر التفعيلة أو قصيدة النثر، وأيضا على مستوى خصوصيات أصواته وتباينها الفني والجمالي، وارتباطاتها بالمكان وما يحمله من تراث عربي مشترك أو خاص، وهذا ما يبينه كتاب جديد للكاتب والناقد السوري عزت عمر.
يفتح كتاب “شعرية الحب والحياة.. دراسة في النص الشعري الإماراتي” للكاتب والناقد عزت عمر نافذة حب كبيرة على المشهد الشعري الإماراتي تضيء بداياته في القرن العشرين مع انطلاقة التعليم وتجمعات النخب المثقفة كجماعة شعراء “الحيرة” بالشارقة، وما كان يعتمل داخل نصوصه من رؤى وأفكار ومشاعر ذاتية وعامة ترتبط بالمحيط الإنساني.
ويتتبع عمر في كتابه، الصادر عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، تنويعات منتقاة من التجارب الشعرية الإماراتية لنحو قرن من الزمان، عايش بعضها خلال إقامته المديدة في الإمارات، وتابع من خلالها مسيرة الشعر الذي واكب نهضة البلاد والمتغيرات العالمية كإبداع خلاق تناغم مع الحياة وتعاقب أيامها تماما كما تتناغم الطبيعة مع ربيعها، فضلا عن أنه تابع حضور هذه التجارب على الصعيد العربي والإنساني إلى جانب التوسع في زاوية الرؤية الجمالية لكونها منتقاة من قبله من حيث الأساس.
مراحل شعرية
يؤكد عمر أن الشعر الإماراتي نشأ مواكبا لطروحات الكلاسيكية الجديدة وتوجهاتها الفكرية والثقافية بصفة عامة كما في تجربة الشاعر الرائد سالم بن علي العويس ورفاقه، وبشكل خاص التعبير عن الذات والجماعة والعروبة شعرا، وهو ما التمسناه أيضا لدى الشاعر الشاب خلفان بن مصبّح، ولاسيما بما حفلت به نصوصه من أحاسيس ومشاعر وصور ترتقي بذائقة المتلقي، سواء بالتكثيف الدلالي المتكئ على حمولات رمزية ترتبط بتراث الحب الشعري العربي أو بتوجهات الرومانسية التي واظبت على حضورها لدى الشعراء أحمد أمين المدني رائد شعر التفعيلة وسيف المري وكريم معتوق وغيرهم.
أما من جهة التوجهات الحداثية، بخصوص شعر التفعيلة وقصيدة النثر، فيشير عمر إلى أن كافة التجارب التي يتناولها كتابه ارتبطت بوعي الحداثة شكلا ومضمونا واستفادت من التجارب العربية السابقة لكل من بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ونزار قباني وغيرهم من الشعراء العرب، وفي الوقت نفسه ارتبطت بما اطلعت عليه من التجارب الشعرية العالمية، ولاسيما مع انفتاح الثقافات على بعضها البعض في عصرنا الرقمي وثورته المعرفية.
وبات من الضروري، في رأي الناقد، أن تتم عملية التفاعل بين الثقافات الحاضرة في المشهد الإبداعي وقضاياه المرتبطة بحياة الإنسان وخرافاته وأساطيره أو حكاياته التي تجذرت في الحياة المعاشة بكل ما تحفل به من قضايا ترتبط بوجوده الراهن أو بماضيه وتاريخ وجدانه، كما في تجربة رائد شعر الحداثة حبيب الصايغ وعبدالعزيز الجاسم وظاعن شاهين وظبية خميس وسواهم ممن تفاعلنا مع نصوصهم المعبرة عن ثيمات كثيرة مثل مشاعر الفرح في الفوز بالحب بعد منافسة، أو انتصار الجماعة وتمجيد اللحظات الشجاعة، بالانتصار لقيم الإخاء والمحبة والمساواة، بقيم الحرية التي يضعها الشعراء في مقدمة أولوياتهم، بالتنديد بالقسوة والعنف وتبيان مفاسد الروح الناهضة عليهما، واللاجدوى والعبث وكل ما يرتبط بالمتغيرّات النفسية لإنساننا المعاصر.
ويقصد عمر بالقصيدة الحديثة التركيز على نمط شعري بحد ذاته بقدر ما يقصد الأنماط الشعرية كافة، تلك الأنماط التي عبر بواسطتها الشعراء عن أنفسهم والعالم، سواء كتبوا القصيدة الموزونة المقفاة، أو شعر التفعيلة، إضافة إلى قصيدة النثر، فالشعر في شعريته وفي مدى تفاعله مع الوعي الجديد وما يقدمه من مقترحات جمالية تغني السيرورة الطبيعية للشعر.
وانطلاقا من هذه الرؤية توقف مع التجارب الشعرية لشعراء من مختلف أطياف المشهد الشعري في الإمارات بدءا من جيل الرواد ممثلا في خلفان بن مصّبح، وذهابا إلى قصيدة التفعيلة ممثلة في أحمد أمين المدني وسيف محمد المري وكريم معتوق، وصولا إلى جيل الوعي الحداثي ممثلا في خالد البدور وعبدالعزيز جاسم وحبيب الصايغ وثاني السويدي والهنوف محمد ومحمد المزروعي وهاشم المعلم ومنى مطر، ليتناول مفردا بالتحليل أعمالا شعرية مختارة من أعمال كل من حبيب الصايغ وظاعن شاهين وظبية خميس وعبدالعزيز الجاسم وإبراهيم محمد إبراهيم وخالد الراشد وإبراهيم الملا.
ويرى عمر أنه مع نشوء دولة الإمارات 1971 وتشكل المؤسسات الثقافية والإعلامية ازداد الاهتمام بالشعر، وبخاصة في أوساط الجيل الشاب مما لفت أنظار النقاد والباحثين المهتمين بحركة الشعر العربي، ولاسيما مع رغبات هذا الجيل في تجاوز الصيغ والبنى التقليدية نحو الحداثة التي عنيت بالإنسان كذات مبدعة، فضلا عما استجد من قيم جمالية في موضوعات رائجة عالميا كالاغتراب والتعبير عن المشاعر الذاتية، إلى جانب الطروحات الفكرية الداعية إلى التحرر والانعتاق مما يعيق تقدم القصيدة من ضغوط سياسية أو مجتمعية.
التجاوب مع الحداثة
يلفت الناقد في كتابه إلى دور اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في تطوير المشهد الشعري، وهو الذي لعب دورا مهما منذ مطلع الثمانينات عبر مجلته “شؤون أدبية” أو من خلال المجموعة الشعرية المشتركة “قصائد من الإمارات” التي قدمت نحو 45 شاعرا وشاعرة كان لهم حضورهم في الساحة الأدبية وانتظمت نتاجاتهم الشعرية في الأنساق الثلاثة المعروفة: القصيدة البيتية، شعر التفعيلة، وقصيدة النثر. وقارئ هذه المجموعة سوف يلاحظ أن التوجهات الفكرية قد ارتبطت بالمستجدات السياسية العربية، ومدى تحمّس الشعراء الإماراتيين للتضامن مع أشقائهم العرب في قضايا التحرر من الاستعمار، والتعبير عن الهموم الوطنية والقومية والإسلامية، إضافة إلى الجانب الذاتي الوجداني.
غير أنه في المرحلة اللاحقة من الحراك الثقافي والمجتمعي الإماراتي يكتشف الباحث أن القصيدة الجديدة انسجمت إلى حد كبير مع حركة الحداثة العربية والعالمية، وقد عمل العديد من الشعراء على حفر حيز خاص بهم في نسق الثقافة العربية، الأمر الذي جعل من الشعر الإماراتي حاضرا بقوة في المشهد الشعري العربي، حيث إن الشعراء الإماراتيين تمكنوا من تقديم نصوص تتسم بالكثير من الأسئلة والمقترحات الجمالية التي كانت قصيدة الحداثة تعتبرها من جملة طروحاتها، في ما يخص شعرية التفاصيل وجمالياتها كتعبير عن الوعي الجديد، الذي حملت شعلته مجموعة من الشعراء، نذكر منهم على سبيل المثال: ظبية خميس، أحمد راشد ثاني، عبدالعزيز الجاسم، نجوم الغانم، ثاني السويدي، ميسون صقر القاسمي، إبراهيم الملا، خلود المعلا، حارب الظاهري، أحمد العسم، محمد المزروعي، عادل خزام، خالد البدور.
ويوضح عمر أن هؤلاء الشعراء وظّفوا الرموز المستمدة من البيئة المحلية (البيت، الفريج، المدينة، البحر، النخلة، الصحراء…) فضلا عن الرمزيات المكتسبة من التثاقف مع حركة الشعر العربي والعالمي المترجم أو المقروء بلغاته الأصلية، وعلى نحو خاص الحفر في الإطار الأسطوري والفلسفي الغربي، والسعي بكل جدية لابتكار لغة خاصة امتازت بما امتازت به قصيدة الحداثة من سمات معروفة: الكثافة الشعرية وإهمال الإنشاء والخطابية، والتنويع في عرض الحالات الإنسانية المختلفة التي اعتاد الشعراء تناولها كالاغتراب الروحي والحزن والفئات المهمشة وغير ذلك.
وقد اقتضى الخطاب الشعري لغة جديدة متحررة ومعبرّة عن الوعي الذي ارتبط بثقافة العصر، وبكل ما يحمله هذا العصر من أبعاد معرفية وفكرية واتجاهات إبداعية، وبكل ما تعنيه كلمة إبداع من سعي نحو الجديد وغير المطروق من القضايا التي اعتاد الشعر التقليدي تناولها.
وبطبيعة الحال فإن تعميم هذه الخطوط العريضة على سائر الشعراء قد يبدو مبالغا فيه بعض الشيء نظرا إلى أن التجاوب مع مسألة الحداثة يتفاوت من شاعر إلى آخر تبعا لثقافته الشخصية أولا، وتبعا لمدى وعيه في التعبير عن الخصوصية في إطار ما استجد، وعلى نحو خاص اللغة الشعرية وما تحفل به من أحاسيس ومشاعر وصور وتعابير ترتقي بالذائقة العامة، مثال ذلك يمكن التوقف عند تجربة الشاعر خالد البدور في مجموعته “شتاء” لنكتشف أن نصه ينهض على الأسطورة ورمزياتها، ويسعى في الوقت نفسه للكشف عن حمولاتها الرمزية في التراث العربي والعالمي وربطها بالأساطير الأولى التي أبرزت علاقة الإنسان والطبيعة ونسجت حكاياتها عنها في قضايا: الموت والحياة، الفرح والحزن، الخوف والشجاعة، الهزيمة والانتصار.
ويكشف عمر أن الشعراء من الجيل الثاني الذين واصلوا مهمة التطوير مع شعراء الجيل الأول، أحمد أمين المدني ومانع سعيد العتيبة وحمد خليفة أبوشهاب وعارف الشيخ وسيف المري وغيرهم، قد تنوعت موضوعاتهم ما بين الوطني والقومي والذاتي الوجداني المتأثر على نحو ما بالرومانسية، بينما واكب شعراء التفعيلة الحداثة الشعرية في إطارها الوجداني والإنساني، ولاسيما أنهم جميعا عاشوا مرحلة التثاقف الخلاقة عربيا وعالميا من خلال الدراسة في الخارج والاطلاع على الأفكار الجديدة من خلال الكتب المؤلفة والمترجمة، وتطور وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية، حيث يمكننا توصيف أصحاب هذا الاتجاه بالشعراء الذين استجابوا للمتغيرات.