عزالدين ميهوبي جزائري يرسم قدره بخط غامض

الجزائري ميهوبي كون شبكة علاقات واسعة مع عدة دول بفضل التجارب الإعلامية والسياسية التي خاضها.
الأحد 2019/11/10
رومانسي يعزف على أنغام رئاسة الجمهورية

صبور كالجمل. واجه عواصف تدمر وتهد الجبال. تلقى الضربات تلو الضربات من لدن الكل، شاعرا كان أو مناضلا أو مسؤولا أو وزيرا. تغير وبدل وغيرته الأحوال والمناصب كما يقول أقربهم إليه مودة. قرّب إليه الخلان والمعارف، وأبعد الأحباب والذين ساروا معه في الضراء والسراء، فتح أبوابه دوما للكل، ولكنه كان يغلقها بمجرد أن يغادروا عتبة المباني التي استوطنها طوال مسيرته.

قطع عزالدين ميهوبي كل تأويل عن موقعه كشاعر ووزير سابق في عرين السلطة، فقال في أحد حواراته إنه “مثقف السلطة ويفتخر”، وبذلك وضع حدا للكثير من التأويلات والحروب التي كانت تخاض ضده في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وصالونات النميمة و”الهدرة” الكثيرة وثرثرات الشعراء والكتاب، فهو عكس الكثيرين ممن يوصفون بالنخب المثقفة تراهم ركعا سجدا بالخفاء وفي الستر يعبدون السلطة على عجل ويتمسحون بأعتابها، فهو عكسهم وضّح الموقف وكشف الأمر.

سيرة متصاعدة

ميهوبي ضمانة للإقلاع الإقتصادي والتنمية
ميهوبي ضمانة للإقلاع الإقتصادي والتنمية

لم يكن والد ميهوبي يتوسم فيه أي نبوغ أو “فهامة” أو ذكاء خارق. أدخله إلى المدرسة في سن التاسعة. كانت تلك ظروف العوائل الفقيرة والمعدمة التي عاشت ضنك العيش وقسوته بعد الاستقلال، حيث لم يكن الأطفال مثلا ينتعلون الأحذية إلا في سن الثامنة أو التاسعة وهو الحال التي كان عليها، حتى أنه لم ينعم برؤية التلفزيون إلا متأخرا جدا، وعندما نال الشهادة الابتدائية لم يصدقه والده، وبدل أن يكافئه مثلما يفعل أي أب حين يسمع بنجاح أبنائه تلقى منه صفعة باردة بقيت عالقة في مهب حياته التي بدأ يشق لها الطريق ويرسمه خطوة خطوة منذ تلك اللحظة إلى حيث هو اليوم.

تكاد تكون سيرة ميهوبي سيرة مخططا لها ومرسومة بدقة، فهو كما تقول مراجعه دخل بعد نيله الباكالوريا مدرسة الفنون الجميلة، فقد كان مهووسا بالخط العربي بجماله ودقته وحسنه وتلويناته. فهندس لنفسه خطوطا تــُرى بعمق في كل مسار حياته، ثم كرس تحصيله العلمي في المدرسة الوطنية للإدارة، مخبر ومجمع تكوين إطارات تسير الدولة، ثم انحرف خطه إلى الصحافة حيث الاحتكاك بعالم الكتابة والمشاهير والفنانين والسياسيين.

سمح له ذلك العالم بالتعرف والتقرب من أكثر الرجال نفوذا داخل النظام كالجنرال العربي بلخير، ورئيس الحزب الحاكم الأوحد آنذاك في الجزائر الشريف مساعديه، ورئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش، والمناضل والمجاهد عبدالحميد مهري، والعديد من أصحاب التيار الإسلامي كالشيخ محفوظ نحناح رئيس حركة مجتمع السلم المعروف باختصار حمس، ناهيك عن مشاهير الرياضة الكبار كالملاكم العالمي محمد علي كلاي ولاعب كرة القدم الشهير المكسيكي كامبوس والجزائري أوكاشا وغيرهم.

السلطة لا تغادر رأس ميهوبي وهي التي اعتاد أن يحس بتغلغل نسماتها داخل روحه، خاصة وأنه ناضل في حزب جبهة التحرير الوطني، وعرف عن قرب أهم الفاعلين والشخصيات القوية في الدولة، قبل أن يغادره مثل العديد من مناضلي الجبهة الذين أدركوا أن عهد الحزب الحاكم بدأ يأفل

كوّن ميهوبي شبكة علاقات واسعة خاصة مع مسؤولي دول الخليج، كان ذلك بعد مسؤوليات عدة ومناصب كبيرة في الدولة والتنظيمات والأحزاب والاتحادات، وبعد تجارب إعلامية قادته أولا إلى رأس جريدة “الشعب” الجريدة العريقة التقليدية الناطقة باسم النظام والسلطة، أين حاول تجديد روحها ونفسها وهيكلتها لتتماشى والثورة الإعلامية المستقلة التي شهدتها تلك الفترة الجريحة من عمر البلد، ولكنه اصطدم بتيارات محافظة متكلسة ومتجذرة لا تقبل التطور والتجديد، فعاند وقاوم وتحدى، وفتح الجريدة لمن لا صوت لهم معارضين أو منتقدين للنظام، وهو ما خلق متاعب جمة له انتهت بمحاكمته وسجنه.

الرياضة طريق الزعامة

جزائريون يدعمون ميهوبي كرئيسا للجمهورية
جزائريون يدعمون ميهوبي كرئيسا للجمهورية 

أسس ميهوبي أول جريدة رياضية في الجزائر “صدى الملاعب” التي كانت ملاذه وملجأه وصوته الآخر المغرم بالرياضة. كرة القدم على وجه الخصوص، ومثلما تفنن في رسم الخطوط وهندستها، تفنن أيضا في إجراء الحوارات ونقل كل ما يتعلق بالرياضة في الداخل والخارج. المتعة الوحيدة المتوفرة بكثرة داخل مجتمع فاقد لكل أنواع الزهو والمرح والتسلية. فالأزمة الاقتصادية اشتدت، وسبل العيش الكريم أصبحت منعدمة، ولم تتبق إلا الرياضة خاصة كرة القدم المتنفس الوحيد للرئات المنتفخة بهواء الضيق والقنوط.

لم تغادر رأس ميهوبي متعلقات السلطة التي بدأ يحس بتغلغل نسماتها داخل روحه، خاصة أنه ناضل في حزب جبهة التحرير الوطني، وعرف عن قرب أهم الفاعلين والشخصيات القوية في الدولة، قبل أن يغادره مثله مثل العديد من مناضلي الجبهة الذين أدركوا أن عهد الحزب الحاكم بدأ يأفل، وبدأ النظام يتخلى عنه شيئا فشيئا، فتلقوا الإشارة بالانسحاب، وأسسوا من الضلع الأعوج للجبهة حزبا سمي بـ“التجمع الوطني الديمقراطي”، وكان ميهوبي من أوائل مؤسسيه ومناضليه وفاعليه.

عالم الصحافة يعود إليه الفضل في تعرف ميهوبي إلى أكثر الرجال نفوذا داخل النظام الجزائري، كالجنرال العربي بلخير، ورئيس الحزب الحاكم الأوحد آنذاك الشريف مساعديه، ورئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش وغيرهم

خولته مكانته في الحزب من ولوج أبواب التلفزيون الجزائري في أهم مديرية به؛ مديرية الأخبار، حيث أستدعي من طرف الرئيس اليمين زروال أحد قادة حزب التجمع الوطني الديمقراطي، وأسدى له تعليمات بضرورة إدخال إصلاحات عميقة على التلفزيون وبالضبط هذه المديرية التي تعنى بالأخبار خاصة الأخبار الأمنية المتعلقة بالإرهاب آنذاك والتي كانت متضاربة وخطيرة ومشككة في كل شيء، من الأرقام إلى عدد الضحايا، إلى حقيقة ما حدث وما يحدث، فضبطها مع جهات مختصة بالأمر، واحتلت المعلومة الأمنية الرسمية عناوين النشرات ومواضيعها، ورسم وخطط وأطلق العديد من الحصص والبرامج المتنوعة؛ سياسية، ثقافية، اجتماعية، اقتصادية ورياضية: أبيض وأسود، وضفاف، ورحالة، واليوم الثامن، وعلى التماس.

أنا في الخدمة أولا

في كل هذا كانت الأحلام والطموحات تتعاظم في عقله وروحه، وأصبح ميهوبي في كل محفل حاضرا ليلفت انتباه وإشارات أرباب الجزائر “أنا في الخدمة دوما”، ثم “لا تنسوني من فضلكم” مثلما يتهكم عليه خصومه، وطائرا في أجواء الكتابة، فكتب في كل شيء: الرياضة، السياسة، الملاحم، المسرحيات، المسلسلات، الأفلام، الرواية، وطبعا في الشعر عموديا أو حرا أو نثريا، حتى تساءل الكثيرون عن القدرة الخارقة التي يمتلكها لكتابة كل هذا؟ وكم يلزمه من الوقت؟ وكيف يكتب ضمن مسؤوليات باتت تطرق بابه المفتوح دوما على كل ما يأتي من السلطة؟

 ومن مدير للأخبار إلى مدير للإذاعة إلى كاتب دولة مكلف بالاتصال إلى مدير للمكتبة الوطنية إلى آخر منصب رسمي تولاه وزيرا للثقافة، عمل، وكافح، و”كسر الحجر” من أجل أن يستوزر في قطاع حساس، وعندما ولي مفاتيح قصر الثقافة في زمن متوتر ومشحون بالتقلبات والتجاذبات والولاءات في أعلى هرم السلطة، استبشر

قطاع واسع من المثقفين والكتاب والفنانين بهذا التعيين وقيل: أخيرا جاء للقطاع ابن حقيقي للقطاع منهم وإليهم، يعرفهم ويعرفونه، وستعرف الثقافة نقلة نوعية كبيرة ستمحو سنوات وزراء آخرين مروا وتركوا السلب والإيجاب في صحراء الثقافة الواسعة.

 التقشف والعداء للثقافة

كان أول ما تلفظ به ميهوبي عندما استوزر، في كل ندوة أو لقاء أو جلسات عمل هو لفظة “التقشف” حتى غدت لصيقة به وحده دون غيره من الوزراء، وهي لفظة جاءت وطبعت آخر مراحل حكم بوتفليقة قبل أن يعزل في 22 فبراير، فبعد أن شبعت خزائن الدولة بأموال فائضة بفضل طفرات أسعار البترول، تبين في ما بعد أنها نهبت وضاعت بالسرقة المقننة، والاختلاسات المستورة، والتحويلات الغامضة لمشاريع قيل إنها لفائدة المجتمع ولكنها لم تترك إلا النزر القليل على الأرض.

 وظهرت الكلمة السحرية المضللة “التقشف” لتجاوز العقبات، والعراقيل، ولتبرير الواقع المفروض، وقد كان ميهوبي أفضل ناطق رسمي لها، ومهللا بها، وباعثا برسائلها، فهو يعرف جيدا لمن توجه، ومن سيتلقاها بصدر رحب وبابتسامة عريضة، ولكن ظهر أن أول ضحايا هذه الكلمة هو القطاع الثقافي “المغبون” الذي كما قلنا كافح وناضل واستعمل ما أمكن له من قوة ورباط الخيل والمعارف والأصدقاء والمتنفذين الذين أفواههم في الآذان التي لا تسمع إلا ما تريد أن تسمعه، ليجلس أخيرا على كرسي لطالما خطط له ورسم أبعاده.

جزائري يرسم قدره بخط غامض
ميهوبي يدرك جيدا، بحكم علاقته المتشعبة، حاجة السلطة إلى رجل مثله. وها هو أمامهم بشحمه ولحمه وعظمه، طيع، وخدوم، وفي الصفوف الأمامية دوما من أجل الحكم.

جلب هذا الجلوس لميهوبي عداوات وخصومات وقطائع وشائعات وحقائق وقيل وقال ومنكرات وسيئات، وصوبت نحوه نيران صديقة وسهام من كل صوب وحدب، وغدا بين ليلة وضحاها العدو رقم واحد للثقافة. وكان يتلقى كل هذا صابرا، ومستحبا للضربات تلو الضربات، مطمئنا، راضيا، خجولا، صامتا وهادئا. وحتى لما نظم في مرات عديدة ندوات صحافية للرد أو للشرح، كان يقابل الجدل والأسئلة الخطيرة والمشككة في نزاهته وإدارته للوزارة، ويجيب بأريحية وسكون ودم بارد، وكل ما قدمه من حجج وبراهين و”تنصالات” ودفوعات لم تنفع في صد الهجوم والاتهام، حتى تشك أن الرجل مخلوق من طين وتراب بل من حديد وصلب.

هو يعرف جيدا بحكم علاقته المتشعبة وفهمه لواقع السلطة التي يليق بها رجل مثله ولايهمها “تكسار الراس” في البحث عن رجل آخر، فهو أمامهم بشحمه ولحمه وعظمه، طيع، وخدوم، وفي الصفوف الأمامية دوما من أجل السلطة أو الحكم، يعرف ميهوبي أن كل هذه الزوابع التي عصفت ومازالت تعصف به، بمحيطه، وبتحركاته، وسكناته، زوابع لم تسقطه ولم تخرب عليه أحلامه، ولم تهدم سقف طموحاته، حتى لو بلغت درجات الإساءة إلى الشخص والعائلة ككل، وها هو اليوم رغم كل هذا الهجوم الكاسح الضاري العنيف سواء أكان أصحابه على حق أو على باطل، يعود أقوى من ذي قبل أمينا عاما بالنيابة للتجمع الوطني الديمقراطي، ومترشحا باسمه للانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في شهر ديسمبر.

لا أحد ممن يعرف ميهوبي حق المعرفة توقع أن يترشح للرئاسيات، ولكن كل الدلائل واضحة وكل الخطوط التي رسمها لنفسه منذ بدايات وعيه النضالي في السياسة والثقافة، تدل على أن طموحاته للمنصب غذتها الفرص، والحظوظ، والفراغات، وغياب “الرموز” التي يقال إنها متمنعة عن الخوض في الرئاسيات حتى لا تكون عدوة للحراك.

رئيس بقبعة عاطفية

ميهوبي يقدم ترشحه للإنتخابات الرئاسية
ميهوبي يقدم ترشحه للإنتخابات الرئاسية 

آمن الكثيرون أن الحملات التي شنت ضد ميهوبي كفيلة برؤيته مكبلا بالأغلال والأصفاد ومقادا إلى السجن، ولم يصدقوا أنه في لمحة خاطفة غدا أمينا عاما بالنيابة للتجمع الوطني الديمقراطي ثاني أقوى حزب في البلاد بل مترشحا باسمه للرئاسيات. وقد تحدث المفاجأة وهي ليست مستحيلة في بلد مازال الكل يعتقد أنه بلد المعجزات والبطولات الخارقة والإنجازات الخرافية. ليست مستحيلة في عرف وتخطيطات ورسومات ميهوبي فقد كان يقول دوما إنه يدين للسلطة للموقع الذي وصل إليه في منظومة الحكم، وأن الجزائر بلد أعطاه الفرصة تلو الفرصة وقد أحسن استغلالها والاستفادة منها، وحين ينظر إلى مساره الذي كان يمكن أن يكون مختلفا لو أنه اختار أن يدرس البيطرة في المجر أو أن يستكمل دراسته في جوبا عاصمة جنوب أفريقيا بعد أن نال شهادة الباكالوريا، فقد يتغير مصيره كلية وما تلك ببعيدة عن اليد العليا للسلطة الحقيقية.

خط واحد طويل وعريض بهي وجميل ومتعرج ومتفنن في رسمه وغامض. ذلك هو خط الشاعر والوزير الأسبق عزالدين ميهوبي طوحت به الدنيا في معارج السلطة بقي وفيا لها، وربما كافأته على حسن الإصغاء والطاعة رئيسا شاعرا أو الرئيس الشاعر، أو أنهت أحلامه وقضت على طموحاته إلى الأبد.

8