عبقرية التكرار

لا أعرف من هي منال ولا من تكون مشيرة، لكن هذين الاسمين يظهران لي بشكل دائم حتى أصبحا جزءاً من أسئلتي اليومية، وقد مرّت فترة احتجت فيها إلى فهم الأمر، كلما ورد إيميل يحمل هذا العنوان “منال ومشيرة”.
حين تفتح الإيميل ستجده يهنئك بالأعياد والمناسبات المختلفة، عيد الفطر وعيد الأضحى ورأس السنة وعيد الحب وشم النسيم، وفي كل مرة ترسل “منال ومشيرة” بانضباط غير عادي هذه الرسائل دون أي تقصير.
قبل قرابة العقدين من الزمن زرت القاهرة عضواً في لجنة تحكيم مهرجان الإعلام العربي، وفي حي مصر الجديدة الشهير بتقاليده المدنية عثرت على غاليري للأعمال الفنية الأصلية واقتنيت بعض الحلي البرونزية المشغولة بيد فنانين مصريين. حينها طلبت مني المضيفة في الغاليري أن أملأ استمارة ما ففعلت. ومن يومها و”منال ومشيرة” تطلان عبر الإيميل.
ربما كان الاسمان وهميين، وربما كانا ترميزاً لشيء ما، أو حتى يشيران إلى موظفتين بسيطتين في المعرض الذي نسيت اسمه بسبب طغيان الاسمين عبر فضيلة وحيدة هي التكرار.
التكرار مهمّة عمّمت عنها الثقافة التراثية مفاهيم وتصورات خاطئة، فاعتبرت أنه من الأمور المملة، وأنه لا يليق بالشطّار. غير أن هذا رأي الثقافة القديمة الذي لم تلتزم به الحداثة وما بعدها.
وفي اللغة العربية للتكرار صنوف لا توحي بأنه من الأشياء الممجوجة؛ تكرار توكيدي هدفه إثارة توقع المتلقي، لغرض تثبيت المعاني وترسيخها في الذهن. وآخر يدعونه لجلجة وهو قادم من مصطلحات علم النفس ويقصد به تكرار مقاطع الكلام. ومنه التضاعف وهو ترديد كلمة في مواضع مختلفة من الفقرة نفسها. وآخر يسمونه المواطأة كأن تردد كلمة ما مرتين أو مرارا، بينما هناك تكرار يقولون عنه إنه تواطؤ يشير إلى كلمة أو عبارة في بدايات فقرات متتالية أو في نهاياتها.
لا تستهن بالتكرار. فبفضله رُسّخت سياسات عديدة حتى باتت من البديهيات، ولم يعد الناس يتصورون أنها غريبة، لأن كل شيء يبدأ من اللغة ثم يتغلغل إلى عالم الوعي.
كثيرون منا لا ينتبهون إلى أن التكرار جعل من وسائل التواصل الاجتماعي مسألة لا نقاش فيها عند مليارات البشر، يجري هذا اليوم بخصوص المثلية، وقبله حصل حول قضايا كثيرة مثل السوبرمان الأميركي الذي لا يُقهر، وحين يجري الاختبار يدعمك السوبرمان ذاته بالكثير من “الدعوات” وحسب، كما يفعل مع أوكرانيا اليوم.
غدا سيصبح التكرار نوعاً من الغزو الذهني يغمرك وتغمر به أنت الآخرين إن استطعت. لكن عليك أن تميّز بين وظيفة التكرار وبين استخدامه بلا هدف، فحتى في الرياضيات يوجد ما يعرف بـ”التفكير التكراري” و”التفكير المتكرر” وهناك فرق كبير بينهما، وليس عليك عندها إلا أن تحترم إصرار “منال ومشيرة” الغامضتين.