عبدالهادي سعدون: يشغلني اليوم التعريف بكلاسيكيات الأدب العربي

"حقل معارك" أنطولوجيا بالإسبانية لقصائد عراقية تواجه الواقع المزري.
السبت 2022/12/10
شعراء يتحدون الواقع الدامي بقصائد مختلفة (لوحة للفنان ضياء العزاوي)

كل أنطولوجيا تمثل صاحبها الذي اختارها وانتقاها، ولكن في مناسبات قليلة تكون الأنطولوجيات أو المختارات على قدر عال من الدقة وبعيدة عن الذاتية وقائمة على معايير مضبوطة، تجعلها قادرة على تقديم لمحة شاملة، وهو ما نجده في أنطولوجيا شعرية عراقية جديدة قدمها الكاتب والمترجم والأكاديمي العراقي عبدالهادي سعدون بالإسبانية.

شهد معرض الكتاب الدولي في مدينة غوادلاخارا المكسيكية، الذي اختتم فعالياته منذ أيام، إطلاق أنطولوجيا شعرية جديدة عن الشعر العراقي المعاصر (1990 ـ 2020) انتخبها وترجمها إلى اللغة الإسبانية، وقدم لها بمقدمة وافية عن أثر الشعر العراقي في الوسط العربي والعالمي أستاذ مادة الأدب واللغة العربية في جامعة مدريد المركزية الكاتب العراقي عبدالهادي سعدون.

الأنطولوجيا التي جاءت بعنوان موحي هو “حقل معارك” تحمل إشارات مهمة لقيمة وحال الشعر في أزمنة العراق المربكة في زمن الدكتاتورية حتى زمن الحكومات الضعيفة المتهالكة بعد الغزو الأميركي وسقوط بغداد عام 2003.

شعر والواقع

تضم الأنطولوجيا الجديدة أغلب الشعراء الذين برزوا ما بعد جيل التسعينات وحتى آخر الأصوات الجديدة الحالية بواقع 34 شاعرا ولدوا بعد عام 1950، مخصصة لكل شاعر نبذة مختصرة عن حياته مع منتخب لثلاث قصائد لكل شاعر، أي أن الكتاب بصفحاته الـ152 تضم أكثر من مئة قصيدة وقصيدة لأفضل ممثلي الشعر العراقي الأخير.

بوكس

والمعروف عن المترجم الكاتب العراقي سعدون انشغاله الأدبي بالرواية والقصة والشعر في كتاباته باللغة العربية والإسبانية، وكذلك ترجمة النتاج الأدبي الإسباني والأميركي واللاتيني إلى اللغة العربية والتي فاقت الأربعين إصدارا حتى اليوم لأهم الأسماء مثل ثربانتس ولوركا وبورخيس، فهو من جانب آخر لا يغفل التعريف بالأدب العربي عامة والعراقي على وجه الخصوص للقارئ الإسباني المختص والهاوي منهما، أي الترجمة من العربية إلى الإسبانية.

وفي هذا المجال سبق وأن أصدر ثلاث أنطولوجيات عن الشعر العراقي المعاصر والتي امتدت من شعراء ما بعد مدرسة الشعر الحر مثل سعدي يوسف وحتى آخر أسماء الأجيال الجديدة التي ظهرت بعد حرب الخليج الأولى مثل الراحلين محمد الحمراني وعبدالأمير جرص وغيرهما. وتلك الأنطولوجيات التي صدرت في الأعوام 2004 و2006 و2009 جاءت بالعناوين التالية “لعنة كلكامش” و”على ضفاف دجلة” و”عراقيون غرباء آخرون”.

الأنطولوجيا الجديدة “حقل معارك”، التي أصدرتها دار النشر المختصة بالشعر العالمي “الحلقة الشعرية” التي يديرها الشاعران المكسيكيان علي كالديرو وماريو بوخوركيث، ضمت مقدمة مطولة عن أثر الحياة والواقع العراقي على النتاج الشعري من مواضيع وظواهر ومحفزات مع الإشارة إلى مفردات الموت والمنفى والحروب كمقابل للحياة والأمل والجنة الموعودة في ميزان المقاربات والتجاذب والصراع.

ونجد نماذج شعرية لأسماء مثل هاتف جنابي وجمال جمعة وحسين علي يونس وزهير كريم ومحمد الأمين وغريب إسكندر وخالد كاكي والحمراني وباسم فرات ونجاة عبدالله وجمال الحلاق وكاظم خنجر وصفاء إسكندروأحمد ضياء وصالح رحيم من بين أسماء أخرى عديدة شكلت وما تزال المشهد العراقي القوي والمتفرد والمتنوع بنتاجه وظواهره الأدبية.

وحول “حقل معارك” الأنطولوجيا الشعرية الرابعة عن الشعر العراقي، والتي تشكل المشهد الشعري العراقي خلال القرن الماضي حتى الآن، توجهنا لسعدون ليضعنا في أبرز الانتقالات التجديدية في المراحل التي قطعها الشعر العراقي حتى الآن، يقول “من خلال التجوال في قراءاتي ومراجعتي للشعر العراقي في كل مراحله كدارس وباحث وكجزء من العملية الشعرية نفسها، لا بد من التأكيد على أن الشعر العراقي كان وما يزال بشكل دائم في بؤرة الحركة وتغيراتها وتطورها”.

تعريف بالأدب العربي

بوكس

يضيف المترجم “إذا ما ركزنا على العملية الشعرية نفسها في العصر الحديث، يكفي أن نشير إلى مدرسة الشعر الحر الريادية وما تلتها من أجيال تحديث سواء ضمن الحركات نفسها أو في أسماء منفردة. أعتقد أن التجديدية نفسها لا يمكن كشف ميزاتها دون فرادة الشاعر العراقي وممارساته التنشيطية في خارطة الشعر العربي. من خلال نظرة فاحصة ودقيقة نرى التغيرات كلها من منابع يشارك فيها الشاعر العراقي من تغييرات جذرية في بنية الشعر الكلاسيكي إلى أغلب أنماط الشعرية الجديدة والتي آخرها في نموذج قصيدة النثر. التجديد لم يكن على المستوى البنية والشكل فحسب، بل على مستوى الموضوع والتقابل مع النموذج العالمي في تطوره وتباينه ومغايرته”.

يؤكد سعدون أنه ركز من حيث الاختيار على نموذج الشعرية العراقية الحالية، وأغلب الأسماء المختارة ولدت بعد 1950 مما يعني أنها شكلت ذائقتها وعوالمها مع الربع الأخير من القرن الماضي مضافا إليها الأسماء التي برزت مع الألفية الثالثة، دون نسيان التركيز على آخر أجيال الشعرية العراقية التي تشكلت وتكونت بعد عام 2003.

ويبين أن هناك تجديدا عاليا وتنوعا في الأساليب والرؤى والذائقة يمكن رؤيتها بوضوح من خلال النماذج المختارة، التي تحفل بفنية عالية تهدف إلى استخدام شتى الوسائل المعاصرة لتكوين النص لغويا وبصريا دون نسيان النموذج الناصع لأساتذة الشعر العربي والعراقي والعالمي ونموذجها المؤثر فيهم.

ويتابع “أهم المواضيع العالمية تجدها في قصائدهم لاسيما التركيز على الفرد في مواجهة الواقع المزري من موت وحروب ومناف ودروب موصدة. سنجد عبر هذه الأنطولوجيا ما يمكن أن يكون كضوء موجه لفهم التغييرات والمغايرات في الشعرية العراقية اليوم، ولعل هذا هو الهدف الأساس من هذه الأنطولوجيا الجديدة والتي تشكل مع الثلاث الأولى ما يشبه انسكلوبيديا شبه متكاملة عن قرن كامل من الشعر العراقي المعاصر”.

ويرى سعدون أن المشهد الشعري العراقي بكليته، ومن ضمنه شعر شعراء المنافي المتكاثرة، يعد جزءا مهما ومتشابكا مع الشعرية العربية سواء في الشكل الشعري المبتكر أوفي المواضيع المشتركة والهم الفكري والأخلاقي والفني، ثم تأتي الانعكاسات العالمية كتتويج لرؤاها ومساراتها وخطوطها المتشعبة.

ويقول “من خلال اطلاعي على النماذج العالمية ومقارنتها مع الشعرية العراقية المعاصرة والجديدة نجدها في تلاحم وتقارب وتجاذب بحكم المسافات المتقاربة والمعرفة القريبة عن طريق التعايش أو الترجمة الدائمة. لم تعد هناك حدود مطلقة أو فجوات لا تردم. النموذج الشعري عراقيا وعربيا وعالميا أصبح أكثر التصاقا وتشابها في الهم الفني والجمالي والموضوعي، ومن هنا تشكل هذه الأنطولوجيا وغيرها صحوة إعجاب ودهشة لدى القارئ الأجنبي لتنوعها وتفردها وتجددها مع النموذج الآخر عالميا”.

وحول ما إذا كان لديه مشروعات للرواية والقصة العراقيتين يوضح سعدون “انشغالاتي قراءة وكتابة تشمل كل حقول الأدب والمعرفة، ولا أجدها نقيصة بل ثراء أحاول تجديده وزيادته والتشبث بمعانيه الجمالية الكبيرة. وهذا يشمل أيضا الترجمة من وإلى الإسبانية كما عليه الأنطولوجيا التي تشغلنا هنا، ولكنها بالطبع ليست الوحيدة في نوعها وصنفها، فأنا أطمح للمشاركة في جوانب عديدة منها، ليست الشعرية وحسب، بل تتعداها على مستوى البحث الأدبي ومنه وما يخرج في مشاريع تعريف وترجمة في القصة والرواية والسرد عموما”.

ويتابع “ميولي القرائية والكتابية تملي على نشاطاتي التعريفية الأخرى التنوع والتبديل والمشاركة في أكثر من جنس أدبي ومعرفي. كل ما قلته حققت بعضه في المشاركة والإشراف على نقل الرواية والقصة والشعر العربي للقارئ الإسباني والمسيرة مستمرة بمقدار وآخر. ما يشغلني في الآونة الأخيرة هو التعريف بكلاسيكيات الأدب العربي، أسماؤه ونماذجه وظواهره الفريدة والتي تخلو منها المكتبة الإسبانية. وأيضا توجهات عامة للتعريف بالعربية لغة وثقافة وتأثيرا. وبما أنها مشاريع فردية خالصة، فيجب التأني والصبر والعمل الدؤوب لإنضاجها ولإتمامها”.

٭٭٭٭

نماذج شعرية من الأنطولوجيا المترجمة

هاتف جنابي

تطريز الصمت

عوّدتُ نفسي ألا تُصدّق نفسَها

في الحلم ولا في اليقظة

أمس كنتُ أعْلكُ ما تبقّى من عشب الكلمات

حتى نسيتُ مذاقَ ما مضغتُ

وفي عجل قد بلعتُ

لكنّ ما يرعبُ الأحياءَ

وما إليه يصفّقُ الأمواتُ

هو الهبوطُ لسهم الكلام

في مقبرة العدم

عوّدتُ نفسي

أنْ تسيرَ على حوافي الطرقات

بين الشوك والهاوية

ثمة مَنْ يمشي على الماء والريح

دَوّنَني الوجهُ من هذا وذاك

ومازال يَنحتهُ الوقتُ وتحفره الكدمات

جبل يعلو جبلا سفح يتباهى بالنفس

نهر يتلاشى في أعماق نهر

والصمت

هو العازفُ الأزليُّ الفريد

٭٭٭٭

منال الشيخ

اسمي

سمعتهم ينادون باسمي

قبل أن أُجيبهم،

تريثتُ قليلا

وتساءلت:

للعالم باب واحد

ووجهة واحدة

إنْ أجبت،

هل سأعود؟

٭٭٭٭

ميثم راضي

أنا من قرية بعيدة

أنا من قرية بعيدة…

كلَّما يموتُ واحد فيها، تختفي كلمة من أحاديثها للأبد

في البداية، اختفتْ الكلماتُ الجيدةُ…

مرَّة.. ماتتْ طفلة من الجفاف: فاختفتْ كلمةُ نهر

ولمَّا ماتتْ أمها من الحسرة عليها اختفتْ كلمةُ مطر

ومرَّة ماتَ نازح من البرد: فاختفتْ كلمة ُ نار

ومرَّة ماتَ صغير من الجوع: فاختفتْ كلمةُ طعام

وماتَ شيخ كبير في وحدته: واختفتْ كلمةُ عائلة…

آخرُ كلمة جيدة بقيتْ عندنا كانت: الله

لكنها اختفتْ عندما سقَطَ أحدُ الأطفال في الشارع

جنازة بعد أخرى: حتى اختفتْ الكلماتُ الجيدةُ كلَّها

وصرنا نستخدمُ طرقا معقَّدة للكلام..

سمعتُ أحدهم يصرخ: يا الطفل الذي ماتَ في الانفجار.. وكان يقصدُ: يا الله

ورأيتُهمْ في الدكاكين: يطلبون من الباعة صغيرا ماتَ من الجوع…

ويفهم الباعةُ أنهم يريدون طعاما

وفي ليالي الشتاء نقولُ النازح الذي مات من البرد بدلَ مفردة نار

وهكذا…

لا يوجد في القرية الآن سوى الكلمات الرديئة والناس الذين لم يموتوا بعد

أنا ما زلتُ أعيشُ هناك

وكلُّ يوم أحاولُ النجاة: ككلمة جيدة.

بوكس

13