عبدالمنعم عمايري فنان ينحاز إلى مسرح الحياة

هو المسرح، بحضوره العميق الذي يبحث عنه والذي يحقق من خلاله ما يريد من أفكار دفع ثمنها جهدا ووقتا استمرا لمدة تقارب العشرين عاما. فالمسرح لديه وجهة نظر إلى الحياة والفن. قدم فيه خيارات وما زال ينوي تقديم المزيد. إنه الفنان المسرحي عبدالمنعم عمايري، الذي يتمسك بلقب المسرحي بشغف.
في نسخته الأحدث قدم ملتقى الإبداع الذي يقيمه المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق لقاء حواريا أكاديميا مع الفنان المسرحي عبدالمنعم عمايري الذي كان منذ سنوات طالبا ثم خريجا، فاستقبله طلاب المعهد ووسائل الإعلام بالكثير من الترحاب، ورافقوه في جولة في أقسام المعهد ثم في مسرح سعدالله ونوس الذي استضاف الحوار على امتداد ما يقارب الساعة والنصف، ثم قدم في مؤتمر صحافي أجوبة لاستفسارات عن مسيرته الفنية.
يبدو السوري عبدالمنعم عمايري مشغولا بهاجس المسرح وعلاقته بالفنون والناس وأحلامهم، فمسيرته المهنية وقبلها الشخصية المليئة بالقلق أوجدت فيه هواجس دائمة اليقظة، تنظر إلى الإنسان باعتباره حدثا دراميا متحركا ومفجرا لأفكار لا تنتهي.
وتحدث تامر العربيد عميد المعهد العالي للفنون المسرحية في بداية الحوار عن المكانة التي يشكلها عمايري في المشهد المسرحي السوري ومدى حرص المعهد والملتقى على التفاعل مع هذا الموضوع. أما الإعلامي سعد القاسم الذي أدار الحوار فاسترجع حادثة جرت لعمايري قبل أيام من عرض تخرجه عندما كسرت ساقه لكنه تحامل على الآلام وقدم عرض التخرج بتمكن، مخالفا رأيا لأحد الإعلاميين الذي قال إنه بسبب الحادث سيدخل عالم المسرح أعرجا.
هاجس وفرص مبكرة

☚ التقمص مرفوض الفنان صاحب مشروع مسرحي قاده نحو نجاحات وربما مطبات فكرية وإنتاجية، لكنه أوصله أيضا إلى منصات التتويج المسرحي
تحدث عمايري في لقائه مع الطلبة عن مسألة تسكن بال الكثيرين من دارسي المسرح أو العاملين فيه، وهي تجذر فكرة الإخلاص لفن المسرح واعتباره الجسر الإبداعي الوحيد الذي يظهرون من خلاله، فقال “كنت ممن يؤمنون بهذه الفكرة، وبأن المسرح هو الفن الذي يجب أن أظهر فيه وأقدم مقولاتي، وهو الأمر الذي دفعني لأرفض طلب المخرج الكبير هيثم حقي للعمل في مسلسل تلفزيوني لأنني ما زلت طالبا في المعهد. كنت مخلصا للفن الرابع، وعملت فيه بإخلاص مدة ثمانية عشرة عاما، عملت فيها معيدا، وأنا فخور الآن بأن عددا من نجوم الفن الدرامي السوري قد درستهم يوما، منهم حلا رجب ودانا مارديني ويزن خليل وآخرين (…) كذلك قدمت مسرحيات شاهدها الجمهور في المعهد أو الصالات كما كتبت العديد من المسرحيات التي ما يزال جزء منها مخطوطات”.
يسأله طالب عن حالة التماهي بين عمله في المسرح والتلفزيون فيجيب “أعمل على تحقيق الحالة المسرحية التي أريدها في ذهني ضمن المشهدية التلفزيونية المطلوبة في العمل. وأرى أن أهم ما في الممثل هو الفعل وليس الحكي عن الشخصية، فأسهل شيء على الممثل هو أن يحكي، ولكن الأهم هو أن يفعل، كل الممثلين يمتلكون معرفة واحدة متاحة للجميع، وأساليب عمل وأدوات متشابهة، لكن ما يميّز واحدا عن الآخر هو علاقته بمجتمعه ومحيطه وكمية استشعار كل ما هو محيط وتفاعله معه، وهذا ما يشكل مخزونا معرفيا وإنسانيا يكون عاملا حاسما في إنجاح طرح الشخصية التي يقدمها، فكلما كان الممثل متعمقا في سبر شخوص محيطه، سيكون ناجحا في تقديم الأفضل والأقرب إلى الحياة”.
لا يجد عمايري في مصطلح تقمص الشخصية دلالة صحيحة تعبر عن عمل الممثل، بل لا بد أن يكون هنالك حاجز ما في تقديم الشخصية، لذلك يرى أنه “لو كان الممثل يقوم بالتقمص الذي يتحدث عنه البعض، لكان عليه أن يقوم بفعل الشخصية كاملا وحتى نهايته، فكما أن عطيل قد خنق ديدمونة فعلى الممثل أن يقوم بخنق الممثلة، وهذا ما لا يمكن أن يستقيم في فن الممثل، ويجب عليه أن يحتفظ بمساحة كبيرة للإدراك بأنه يمثل، وليس متقمصا للشخصية التي يقدمها، لذلك عليه أن يسيطر على الشخصية وانفعالاتها ويتوقف عند حد إيجاد إشباع لحالة الدراما والفكرة التي يراد تقديمها، فالممثل باختصار يقوم بفعل اللعب، وليس تقمص الشخصية المطلوبة منه”.
وفي مؤدى عميق يبيّن عمايري أن “فن التمثيل متحول كأي فن لا يمكن ضبطه بكيان ومحددات جامدة، ومنها السينوغرافيا التي تتعلق بكل عناصر المشهد المسرحي من ديكور ولون وأزياء وحركة ممثل، ومن حق العاملين في فن السينوغرافيا أن يقدموا حلولا وأفكارا إبداعية تخص ما يقدمونه، لكن ذلك يجب أن يكون تحت إدارة المخرج ونظرته المتكاملة للعرض، وليس في الأمر دكتاتورية بل لأن المخرج هو الشخص الوحيد الذي ترتبط عنده كل خيوط العمل وهو الذي يرى العرض النهائي في خياله قبل أن يكون مجسدا على الخشبة”.
الأستاذ والطالب
يجيب عمايري أحد الطلبة عن ماهية العلاقة الناجحة بين المدرس والطالب، قائلا “في السنة الأولى من الدراسة في المعهد لم يكن يسمح لنا بالحديث مع الأساتذة في شؤون المسرح، لأننا في مرحلة التكوين، والوقت ما زال مبكرا على أن نبدي الرأي، ونحن احترمنا هذا الأمر ونفذناه، حتى وصلنا إلى السنة الرابعة وصار بإمكاننا أن نبدي وجهة نظر في فكرة مسرحية محددة أمام أساتذتنا”.
ويتابع “أسمع أحيانا حاليا أن الطلاب يتخيّرون أساتذتهم، وهذا برأيي مرفوض تماما، الأستاذ هو شخص عنده مخزون معرفي يجب أن ينهل منه الطالب ما استطاع دون أن يتدخل في مسألة الحب والانجذاب إليه وغير ذلك من الأمور التي تخرج بالعملية التعليمية عن طبيعتها. ليس من مهام الطالب أن يحب أو لا يحب المدرس، من مهامه أن يستمع له وينفذ ما يطلب منه حتى يتعلم”.
وعن دور المعرفة التي يجب على الطالب أن يكونها ليكون فنانا ناجحا يجيب “كانت في المعهد مكتبة تضم المئات من الكتب، وكنا نلتزم بقراءتها، وخلال سنوات التمرين في المعهد قرأنا كل هذه المكتبة. المعهد يقدم فرصة كبيرة للطلاب لكي يقرأوا عن فن المسرح ويتعلموا بشكل أكاديمي”.
ويضيف “أنا شخص كنت محظوظا بأن درست في هذا المعهد، وكنت فيه طالبا حينا ومعيدا حينا آخر، وهذا ما منحني فرصة التعرف على العملية التعليمية من الطرفين. والآن بعد مضي سنوات، أزعم أن قيامي بالتدريس سيكون صعبا علي نظرا إلى الحالة المزاجية التي ترافق التقدم في السن، لكنني أنظر إلى المرحلة التي كنت فيها طالبا ثم معيدا بالكثير من الحب، وما زلت حتى الآن أتعلم حتى من الطلاب الجدد، فيمكن أن يضيف لي أحدكم شيئا جديدا”.
ويتذكّر الممثل السوري التجارب المسرحية الخارجية التي أثرت فيه، قائلا “ولا بد أن أذكر أن احتكاكي بالتجربة المسرحية في تونس والحالة التعليمية الأكاديمية الهامة التي وجدتها هناك قد ساهمت إلى حد بعيد في تحديد معالم توجهاتي الفنية لفن المسرح ومدى الجدية والاهتمام الذي يجب أن يوليه الفنان لموضوع التعليم المسرحي، لأنه يكون لديه القاعدة العلمية التي ستكون له السند الدائم في كل حياته المهنية، وأنا أرجوكم بأن تقرأوا كثيرا في هذه المرحلة، لأن انتقالكم لاحقا إلى مرحلة العمل الاحترافي ستجعل من عملية القراءة أمرا صعبا، لضيق الوقت وكثرة الأشغال، فهذه المرحلة هي الأهم لكي تستزيدوا من كم المعرفة في عالم المسرح”.
مسعود وعمايري
ينقل تامر العربيد في بداية الحوار تشبيه غسان مسعود للحالة المسرحية التي يمثلها عبدالمنعم عمايري بأنه آخر صعاليك المسرح الحقيقيين. ومن المؤكد أن علاقة فنية وشخصية خاصة ربطت بين المبدعين، حيث وصلت ثقة مسعود بطاقة تلميذه الفنية وما يقوله في فن المسرح أن عمل تحت إدارته كمخرج بعد سنوات قليلة من تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية. فخمس سنوات مرت بعد التخرج ويأتي عام 2001 ليقدم عمايري أول عمل مسرحي من تأليفه وإخراجه بعنوان “صدى” ويكون أستاذه غسان مسعود بطل العرض إلى جانب الممثلة سلافة معمار.
في هذا العرض قدم عمايري أحد أهم ملامح الحياة التي يحياها كثير من الأزواج في تفاصيل الحياة اليومية. ووضع المتلقي في مواجهة ساخنة مع سؤال “ماذا بعد علاقة الحب الرومانسية التي تنشأ بين رجل وامراة وانتهاء ذلك بالزواج، هل ستبقى العلاقة على حالها أم سيكون الأمر مختلفا وما هو مصير ذلك الحب؟”.
وفي العرض بحث مستفيض عما يمكن أن يواجهه زوجان من تغيّرات على طبيعة العلاقة بينهما، فالزوج في المسرحية فنان تشكيلي ينشغل عن زوجته التي يحبها بفتاة تكون موضوعا لإحدى لوحاته، الأمر الذي يفجر لدى الزوجة كوامن الغيرة، لتبدأ العلاقة بالتوتر والتشعب في أطرافها الثلاثة وفي شكلها الحقيقي والمتخيل.
في مسرحية “صدى” صار التلميذ مخرجا والمدرس ممثلا، عوالم وتقاطعات ذهنية وفكرية كبرى تعبّر عن ثقة فنية وشخصية نشأت واستمرت بين طالب وأستاذ يفكران في تغيير مواقعهما في عالم المسرح بتقديم ما هو حقيقي وواقعي وهام.
بهذه التجارب وأكثر، يؤكد عبدالمنعم عمايري صاحب “صدى” و”فوضى” و”تكتيك” و”سيليكون” و”جان جنين سينوغرافيا الموت”، أنه صاحب مشروع مسرحي عمل عليه منذ كان طالبا وقاده نحو نجاحات وربما مطبات فكرية وإنتاجية، لكنه أوصله أيضا إلى منصات التتويج المسرحي في قرطاج والمسرح التجريبي في القاهرة، وفتح له الباب أمام شهرة في عالم التلفزيون.