عبداللطيف محفوظ: الرواية بناء دقيق والسيرة الذاتية عمل مضاد للسلطة الأبوية

عَهِدَنا المفكر المغربي عبداللطيف محفوظ ناقدا وباحثا في حقل السيميائيات، وقد قدّم عددا مهما من المؤلفات التي اشتغلت على إنتاج وتلقّي الرواية العربية، وانحاز إلى السيمائيات في محاولة للبحث عن منافذ جديدة لتحليل النص الأدبي وتجاوز ما هو سائد في النقد الأدبي والبحث عن معنى. واليوم يفاجئنا بنشر سيرة طفولته في قالب قصصي. “العرب” كان لها هذا الحوار مع محفوظ حول انتقاله من النقد إلى التأليف السردي.
صدر أخيرا للناقد المغربي عبداللطيف محفوظ كتاب سيري بعنوان “رهاب متعدد.. سيرة طفولة”، ينتقل من خلاله محفوظ من النقد إلى الإبداع في مستويي اللغة وتصوّر العالم برؤى وطرائق سردية تشكل إضافة حقيقية إلى حقل السيرة وتجلياتها الشفيفة.
ويؤكد محفوظ أن الأغلبية تعتقد أن من أدمن الكتابة النقدية يجد صعوبة كبيرة في الكتابة الإبداعية، لذلك توصّل بتعليقات أصدقاء أطلعهم على فصول إبداعية من روايته عن تاريخ فاس ونواحيها التي لم ينشرها بعد بعنوان “التاج المفقود”، وهم يستغربون من الفرق الكبير في اللغة والأسلوب بين كتاباته النقدية وكتاباته السردية الأخيرة. ويقرّ الناقد أن الاختلاف في اللغة والأسلوب لا يمكن، حسب تجربته، أن يتحقق دون وجود “تماسف” زمني مهمّ، ينسى خلاله نسقا ولغة، ويسترجع فيه نسقا ولغة آخرين. وهو منذ بدأ التفكير في الكتابة الإبداعية، يوزع الوقت بين كتابة وكتابة. وفي كل مرة يتكيّف وجدانيا وفكريا مع الجنس الذي يكتب وفق قواعده، كما يقول.
النقد والإبداع
حول تأخره في نشر كل ما كتب من نصوص سردية، يقول عبداللطيف محفوظ “بصراحة لم أستطع التفرغ للإبداع بالقدر الذي يساعدني على إنتاجه وفق ما أبتغي، فطبيعة عملي ومسؤولياتي المهنية تستغرق مني وقتا طويلا، ويضاف إليها ما أتلقاه من دعوات إلى ندوات ومؤتمرات وعضوية في لجان. وكل ذلك يجعلني أعلّق باستمرار الكتابة الإبداعية، وأعود إلى مراجعي وملاحظاتي على الكتب التي قرأتها. لأستعيد نسق تفكيري العادي، وأسلوبي في استعمال اللغة الواصفة، فأهتم بمداخلاتي وأنسى الإبداع. وحين أفرغ منها أعود إلى التفكير في الكتابة الإبداعية التي لا تخلو، بالنسبة إليّ، من صعوبة، خصوصا إذا تعلق الأمر بمحاولة كتابة الرواية التي هي، وفق تصوري، الذي دوّنته في كتابي ‘آليات إنتاج النص الروائي‘، بناء دقيق محدد ومعلوم منذ البداية، لا يقبل تدخل الصدفة، ولا الانسياق وراء إغراء التداعيات، أو التعلّق بالأفكار الكبرى للفلاسفة أو الحكماء عن طريق تسريدها من أجل ترصيع النصوص لمخادعة قراء ونقاد غير متنبهين.. إنها بالنسبة إليّ بناء يدلّ على فكرته من خلال تجسيد الفكرة ذاتها”.
وكشف محفوظ أن الدافع لعودته إلى الكتابة الإبداعية يعود إلى رسالة تلقاها ذات مساء من شهر أغسطس 2016 عبر الفيسبوك من صديقه شرف الدين ماجدولين، يخبره فيها أن مجلة “الجديد” تخصص عددا لطفولة الكتّاب، وأنها تحبذ أن تكون التجارب مؤثرة في حياتهم. فشكره، وقال له سأحاول لأن الكتابة عن الذات، أو حتى استثمار التجربة الذاتية في الكتابة منعدمة عنده.
يتابع “بعد يوم جلست في المقهى، كالعادة، أحمل كمبيوتري وأسترجع كل أحداث الطفولة، فتزاحمت في ذهني الأحداث، وهكذا، في ظرف وجيز جدا، كتبت عن ثلاثة حوادث دفعة واحدة. وهي رهاب الماء، وهو النص الذي نشر العدد 29 من المجلة، ويحكي عن حادث السقوط في بركة، ورهاب التحرش ويحكي عن عقاب وبيل جزاء نقل أخبار عن التحرش أو الشبهة به. وثالث عن انعكاس خبر انقلاب الصخيرات الفاشل على الجماهير والحياة العادية خلال يوم العاشر من يوليو 1971. وبعد
كتابة هذه النصوص اخترت النص الأول، لأنه موافق للشروط النوعية والكمية المطلوبة، وأيضا لأنه يصوّر، باقتصاد كبير شكل حياة واقعية لفئات اجتماعية عريضة، خلال زمن معلوم”.
ويضيف محفوظ “لقد كان همّي في ‘رهاب متعدد‘، متجها أكثر إلى تشخيص القيم الاجتماعية السائدة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي بمدينة فاس، حيث عملت على رصدها من خلال أحداث بسيطة، قد لا تبدو مهمة، لكن ردود الفعل تجاهها تجسد القيم بشكل ضمني، وبتلقائية تتلافى التقريرية؛ كما أشرت إلى أحداث تسرد اختلاف المزاج العام وشكل انقسامه حول بعض المنتوجات والبنيات الترفيهية الجديدة التي كان لها تأثير حاسم في تحول المجتمع المغربي وانفتاحه، مثل التلفاز ودور السينما”.
ويؤكد “كنت مصرا، في كل لحظات الكتابة، على توصيف الحالات، وليس تحليلها، وهو الأمر الذي يستدعي من القارئ أن يتوقف عند التفاصيل والأوصاف العابرة من أجل استكناه الفكرة الموجودة أو التي أحاول من خلال السرد تمريرها.
السيرة والنرجسية
ردا على ما يمكن أن يفهم من إجابته السابقة أن السيرة ذريعة لتمرير موقف من السياسات العامة، خصوصا في الإعلام والتربية، يقول محفوظ “ليس تماما، ولكنها مبطنة برفض سياسات بعينها، إنها تتضمن الكثير من الانتقاد المزدوج الموجّه للمجتمع وإلى السلطة، من خلال التركيز على شكل تعامل رموز السلطة مع العامة، وتعامل هذه الأخيرة مع أعوانها، ورفض الموقف العام الاجتماعي من العلاقات الإنسانية بين الذكور والإناث، وفصلهم في المدارس والثانويات، والحفلات العائلية، بل حتى في التجمّعات العائلية”.
ويضيف “كما ترصد السيرة بشكل ضمني آثار تلك المحظورات على عدم الاطمئنان إلى العلاقات الراقية والبريئة، التي ضاع أكثرها. كما ترصد بحذر المواقف الحقيقية للنخبة المتعلمة تجاه قرارات وسياسة الدولة؛ وقد عملت السيرة على تشخيص تحوّلات القيم تحت ضغط الشعور بعدم وجود حرية حقيقية للتعبير والتصرف”.
محفوظ يؤكد أن الدافع لعودته إلى الكتابة الإبداعية يعود إلى رسالة تلقاها ذات مساء من شهر أغسطس 2016 عبر الفيسبوك من صديقه شرف الدين ماجدولين
ويشير إلى أنه بمقابل ذلك، هناك تنويه بالمجتمع الذي كان متآخيا ومتعاونا، حيث نادرا ما كان يوجد من يفكر في عواقب المساعدة وفق أيّ ظرف، أو من يمكر
أو يكيد وهو يطلب المساعدة. إن السيرة، عموما، كما يرى محفوظ، تُعلي من القيم النبيلة على اختلاف تمظهراتها، سواء عند الفرد، أم عند الجماعة؛ لكن دون أسطرتها أو جعلها طهرانية خالية من الشوائب، بل هي تقرّ بلحظات الضعف الذاتي والاجتماعي.
ويرى محفوظ أن بعض المهتمين يشكّون بجنس السيرة في قيمتها التاريخية، حين تكون مجرد وصف لذات تنفعل بالأحداث العامة المعروفة وتصفها، أو حين تكون صنيعا نرجسيا واعيا يدفعها إلى تحويل الحقائق، أو تعبيرا عن نرجسية لا واعية تضمر بعض الحقائق التي تمس مجد الذاتين الفردية والجماعية.
ويقر بأن هذا الشك يعدّ، في غياب سيرة موضوعية نموذجية، محايثا لكل محاولة مهما ادّعت الصدق والموضوعية، لذلك يقول “كي لا أدّعي الصدق المطلق، إن فائدتها مقصورة على المتعة الجمالية لطريقة سردها، ولتوصيفها لشكل حيوات حقيقية لا يمكن للكتابة التاريخية أن تقف عندها بدقة وتفصيل”.