عبدالكريم بن مبارك قيادي جديد لجبهة التحرير في مهمة تأكيد الولاء لتبون

شخصية من الصفوف الخلفية لإنقاذ "العتيد" من التجاذبات.
الأحد 2023/11/19
شخصية مغمورة ليس في حوزتها التجربة اللازمة

لم يتأخر الأمين العام الجديد لحزب جبهة التحرير الوطني عبدالكريم بن مبارك في إرسال إشارات الولاء للسلطة، ورفع اللبس الذي لف علاقة الحزب بالسلطة في السنوات الأخيرة، حيث أكد على أن “العتيد” سيدعم برنامج رئيس الجمهورية، ويقف خلف القيادة السياسية للبلاد، وهو الخطاب الذي ردده الحزب طيلة العقدين الأخيرين، قبل أن تتشوش رؤيته تحت ضغط احتجاجات الحراك الشعبي، ويدخل في المحظور الذي أثار غضب السلطة.

وفاجأ المؤتمر الحادي عشر للحزب المستحوذ على أغلبية المؤسسات المنتخبة في الجزائر، جميع الأنظار والمتابعين، بالدفع بقيادي من الصفوف الخلفية لخلافة الأمين العام السابق أبوالفضل بعجي، الذي كان المرشح الأوفر حظا إلى غاية الساعات الأخيرة التي سبقت المؤتمر، ويتعلق الأمر بالنائب البرلماني السابق ومسؤول إحدى الهيئات المحلية للحزب في ضاحية بوزريعة بالعاصمة عبدالكريم بن مبارك.

القائد الجديد لحزب الأغلبية سيضطلع بمهمة اجتثاث فلول العهد السابق وتعبئة الحزب لصالح السلطة القائمة

وبهذا التغيير المفاجئ، الذي جاء من أجل تثبيت الحزب كذراع سياسية للسلطة، كما دأب عليه منذ أيام الأحادية السياسية، تكون مهمة استعادة ثقة السلطة وتأكيد الولاء هي التي تتصدر أجندة الرجل، خاصة في هذه المرحلة التي تستدعي تعبئة سياسية عالية من أجل تمرير ولاية ثانية للرئيس عبدالمجيد تبون.

لكن اللافت هو مدى قدرة بن مبارك على قيادة الحزب الذي لم تتوقف تياراته عن التجاذب، وارتباط أوضاعه الداخلية والنظامية بما يدور داخل كواليس السلطة، خاصة في الاستحقاقات الكبرى، ففضلا عن أنه شخصية مغمورة من الصفوف الخلفية للحزب، ليس في حوزته التجربة اللازمة والكاريزما التي تحقق التوافقات وتحتوي الخلافات، فقبل هذا المنصب كان الرجل نادر الحضور في وسائل الاعلام وحتى شبكات التواصل الاجتماعي.

ويبدو أن مواقفه المعارضة للأمين العام السابق واستقواءه بالسلطة قبل دخول معترك قيادة الحزب سمحا له بأن يكون مرشح الهاتف الذي زكاه لقيادة جبهة التحرير الوطني، وأمر أبا الفضل بعجي بالانسحاب من السباق، حتى ولو نفى ذلك.

إلا أن ممارسات الحزب وتقاليده توحي بأن قرار جبهة التحرير كان دائما يأتيها من خارج أسوارها كما حدث مع أمناء عامين سابقين، ولذلك كان المرشح الوحيد الذي زكاه المؤتمر، واختفى كل المرشحين الذين تحدثت عنهم الكواليس، بمن فيهم أبوالفضل بعجي الذي كان يتصدر التوقعات قياسا بتفصيل المؤتمر على مقاسه ورغبته الجامحة في تجديد الثقة لنفسه، قبل أن تنقلب الموازين ويعلن عن انسحابه من السباق.

علاقة أزلية بين الحزب والسلطة

انسحاب مفاجئ لبعجي وتساؤلات عن الجهة التي رفضته
انسحاب مفاجئ لبعجي وتساؤلات عن الجهة التي رفضته

أعطى القيادي الجديد الانطباع لمحيطه المحدود، بأنه “ضحية توجهات القيادة الحالية، بسبب مواقفه الرافضة لخياراتها، ولذلك تم عزله في وقت سابق من صفوف الحزب، وحرم من الترشح لمجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان)”، ليظهر بذلك في ثوب المعارض لأبي الفضل بعجي، والوفي لخيارات الدولة خاصة في ما أسماه بـ”المرحلة الحرجة”.

وفي تصريح نادر له قبل معترك الأمانة العامة، أبدى الرجل تناغما مع توجهات السلطة القائمة بقيادة الرئيس تبون، في ما يتعلق باجتثاث تركة الحقبة السياسية السابقة، خاصة الفلول المحسوبة على مرحلة بوتفليقة، كما لم يتوان في التشكيك في نوايا القيادة الحالية حول ما أسماه بـ”مناورات عرقلة برنامج الإصلاحات الشاملة التي أقرها الرئيس تبون”.

ولم يتأخر بن مبارك في إعلان الطاعة للسلطة وتجنيد الحزب لدعمها، في خطوة تستهدف المسارعة في رفع اللبس الذي لف علاقة الطرفين خلال السنوات الأخيرة، فالرئيس تبون، المنتمي أصلا في وقت سابق للحزب، ومعه الفريق العامل معه، لم ينسوا خطيئة الحزب، حين أعلن عبر منسقه المؤقت آنذاك علي صديقي دعمه للمرشح عزالدين ميهوبي في رئاسيات العام 2019، فهو علاوة على أنه لم يقدم مرشحا له ولم يدعم المرشح المنحدر من صفوفه، أعلن عن تأييد مرشح الحزب الغريم التجمع الوطني الديمقراطي.

ورغم أن خيوط اللعبة كانت واضحة آنذاك، كون قيادات في المؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات كانت تدعم المرشح ميهوبي، وضغطت في كل الاتجاهات لتعبئة الفواعل الحزبية والمدنية لتأييده، بما فيها حزب جبهة التحرير الوطني، التي كانت تمر حينها بظروف استثنائية نتيجة غضب الحراك الشعبي منها، وإيداع أمينين عامين لها السجن بدعوى الفساد وهما جمال ولد عباس ومحمد جميعي، فإن السلطة الجديدة لم تغفر للحزب سقطته وظلت علاقتها به فاترة رغم محاولات التقرب التي بذلها بعجي.

ولتجاوز هذه الحالة، سارع الأمين العام الجديد لحزب جبهة التحرير إلى التأكيد على دعم حزبه لبرنامج الرئيس عبدالمجيد تبون.

واجهة السلطة

شخصية مغمورة ليس في حوزتها التجربة اللازمة والكاريزما التي تحقق التوافقات داخل حزب الأغلبية
شخصية مغمورة ليس في حوزتها التجربة اللازمة والكاريزما التي تحقق التوافقات داخل حزب الأغلبية

ثمّن بن مبارك في أول كلمة له بعد تزكيته “برنامج رئيس الجمهورية، وشدد على دعم حزبه له ومشاركته الرؤى ومشاطرته الحلم، إيمانا بأن القيادة السياسية العليا لها من البصيرة وبعد النظر ما يؤهلها لدفع عجلة التنمية”.

ودعا إلى “الوقوف خلف القيادة السياسية للبلاد، لاسيما في الظرف الحالي الذي يستدعي لمّ الشمل وإشراك جميع الطاقات، وإلى ضرورة استرجاع الحزب لبريقه، واستقطاب فئة الشباب، واستعداده لتطوير الحزب بيد ممدودة للجميع والعمل على نشر ثقافة الصلح”.

ولفت إلى أن “حزب جبهة التحرير الوطني أكثر من جمعية سياسية، متوجة بماض مشرف وحاضر مجد ومستقبل واعد، وهو متماه مع تمسك الجزائر بمبادئها ونصرتها للقضية الفلسطينية، خاصة في هذه الظروف الصعبة”، التي حمّلها إلى ما أسماه بـ”هشاشة المجتمع الدولي التي اتضحت أكثر أمام ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة”.

تقاليد جبهة التحرير توحي بأن القرار كان دائما يأتيها من خارج أسوارها كما حدث مع أمناء عامين سابقين

ويبدو أن القائد الجديد لحزب الأغلبية سيضطلع أيضا بمهمة اجتثاث فلول العهد السابق، وتعبئة الحزب لصالح السلطة القائمة، وهو ما ظهر في تصريحات مقتضبة للرجل، الذي لم يتوان في توجيه تهم الجهوية والفساد وخدمة الأغراض الشخصية، وعرقلة ما أسماه بـ”جهود رئيس الجمهورية في تنفيذ الإصلاحات الشاملة في البلاد”.

وأثبت مسار مؤتمر الجبهة أن السلطة لم تسمح بعقده إلا بعد أن تأكدت من مخرجاته الموافقة لتوجهاتها، ولذلك تم تجاوز أسباب تأجيل موعد المؤتمر مرتين، زيادة على تأخره لثلاث سنوات كاملة،

وظهور بوادر عدم تجديد الثقة في الأمين العام السابق والدفع بمرشح جديد، الأمر الذي أوحى بأن السلطة التي ظلت تعتبر جبهة التحرير الوطني ذراعها السياسية، تريد طبعة جديدة موثوقا بتوجهاتها وعقيدتها السياسية والانتخابية، ولا مكان فيها لأيّ شكوك قد لا تتوافق مع أجندتها، كما حدث خلال الانتخابات الرئاسية المنتظمة نهاية العام 2019. ولا يستبعد متابعون لشؤون الحزب الأول في الجزائر أن يكون بن مبارك واجهة السلطة القائمة في جبهة التحرير الوطني، وإذ ارتبط كل أمين عام برئيس دولة، فإن الرجل سيرتبط بحقبة الرئيس تبون، وسيكون أداته في تطويع الجبهة لخدمة أجندة السلطة، لاسيما الانتخابات الرئاسية المنتظرة نهاية العام القادم.

وغالبا ما يعمد رؤساء الجزائر خلال التعددية إلى خوض الاستحقاق في ثوب المرشح المستقل، حتى ولو كانت علاقته عضوية مع أيّ من الأحزاب، كما هو الشأن بالنسبة إلى الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة والرئيس الحالي المعروفيْن بانحدارهما من حزب جبهة التحرير الوطني، وذلك بدعوى أن “الرئيس هو رئيس جميع الجزائريين، وأنه لا حزب بإمكانه قيادة البلاد منفردا”.

طبعة خاصة للجبهة

تبون، العضو السابق، لم ينس خطيئة الحزب حين أعلن دعمه لمنافسه عزالدين ميهوبي في رئاسيات 2019
تبون، العضو السابق، لم ينس خطيئة الحزب حين أعلن دعمه لمنافسه عزالدين ميهوبي في رئاسيات 2019

تبقى جبهة التحرير الجزائرية من أكثر الأحزاب حركية ونشاطا في البلاد، حيت تداول على قيادته العديد من الوجوه والرموز السياسية، على غرار المناضل التاريخي الراحل عبدالحميد مهري، ولذلك تميز بعد الاستقرار والانقلابات البيضاء، تماشيا مع التوازنات القائمة داخل السلطات المتعاقبة، إذ يبقى يمثل قاعدة خلفية لأيّ جناح منتصر يستوجب عليه الاستعانة بالوعاء الشعبي للحزب من أجل تثبيت أركان حكمه.

غير أن اللافت في التحول الأخير هو الفارق الكبير في رصيد الأمين العام الجديد وخبرته ووزن شخصيته، حيث تغيب أوجه المقارنة بينه وبين أسلافه بداية من الراحل مهري، إلى غاية جمال ولد عباس، ومرورا

بعلي بن فليس وعمار سعداني وعبدالعزيز بلخادم.. وغيرهم، ولو أن الحزب يعتبر أرضية خصبة لصراع الأجيال، بين ما يعرف بالحرس القديم وبين جيل الشباب الذي أفرز عددا من الأمناء العامين لكنهم فشلوا في مساراتهم كما هو الشأن بالنسبة إلى معاذ بوشارب ومحمد جميعي ثم أبوالفضل بعجي.

وبمثل هذه المخارج يكون الحزب الأول في البلاد قد حافظ على تقليد التغيير الدوري في المراكز القيادية، حيث دأب على استهلاك أمنائه العامين من مؤتمر إلى آخر، عكس الأحزاب السياسية التي عمّر فيها قادتها لأكثر من ربع قرن، كما هو الشأن بالنسبة إلى حزب العمال اليساري.

لكن حزب جبهة التحرير ظل ثابتا في محتواه السياسي، فباستثناء الحقبة القصيرة في مطلع تسعينات القرن الماضي التي تحول فيها إلى قوة سياسية معارضة، فإن مساره ظل وفيا للسلطات المتعاقبة مهما كانت خلفيتها الأيديولوجية والسياسية.

وعرفت الفترة الممتدة ما بين المؤتمر العاشر للحزب والحادي عشر تولّي ستة قياديين لمنصب الأمانة العامة، وذلك لأول مرة في تاريخ الحزب العتيد، فبعد تزكية عمار سعداني في المؤتمر العاشر للحزب المنعقد أواخر شهر أبريل 2015 جاء الدور على الوزير الأسبق المتواجد في السجن جمال ولد عباس، بعد تنحي سعداني، وبعدها رئيس المجلس الشعبي الوطني الأسبق معاذ بوشارب، الذي تلاه البرلماني السابق محمد جميعي، ثم القيادي علي صديقي، الذي سيّر الحزب لفترة مؤقتة، إلى حين تزكية أبي الفضل بعجي على رأس الحزب.

7