عبدالعزيز بركة ساكن روائي سوداني مثير للجدل يخترق حواجز اللغة

زرت السودان مرتين، كانت الأولى في نوفمبر 2007 عندما سافرت ضمن وفد إعلامي مصري إلى الخرطوم لحضور إحدى المناسبات الوطنية هناك، والثانية في صيف 2011 وكنت قد قرأت بالقاهرة جانبا كبيرا من مشروع عبدالعزيز بركة ساكن الروائي عندما حل بها ضيفا مؤقتا في محطة انتظار وترقب لمنفى اختياري بعد سنوات طويلة من التضييق والمعاناة.
في المرة الثانية كانت الرؤية أعمق وألذ وأكثر شغفا، حيث سافرت بعقلي وخيالي إلى أرض السودان وناسه، لأشاهد وأتابع شوارعه الخلفية وبيئاته المتنوعة من خلال أربع روايات شيّقة صدرت لساكن عن دار رؤية للنشر بالقاهرة، وهي “العاشق البدوي”، و”رماد الماء”، و”الطواحين”، و”الجنقو: مسامير الأرض”.
كانت الأخيرة هي التي فازت، مؤخرا، بجائزة الأدب العربي في باريس بعد أن نقلها إلى اللغة الفرنسية كزافيير لوفان، وهي جائزة هامة يمنحها معهد الأدب العربي في فرنسا بالتعاون مع مؤسسة جان لوك لاغاردار، بشكل سنوي للروايات العربية المترجمة إلى اللغة الفرنسية.
بدا الخبر مُبهجا لأنني توقفت كثيرا عند أدب ساكن وما يقدمه من مشاهدات مُدهشة للحياة في السودان، وقررت متابعة مسيرته الأدبية باعتبارها نمطا مُختلفا للأدب الهارب من قيود المجتمع والسلطة على السواء.
كنت قد التقيت به منذ حوالي عشر سنوات في القاهرة، وشعرت أنه مُبدع فريد، لديه قدرة حكي عظيمة، ومشدود رغم غربته بجذور قوية تربطه ببلاده التي تعشق الثقافة وتستنشق الإبداع.
جمال محجوب
يمكنك أن تتلمّس من خلال الحوار معه كيف قاوم بخيال لذيذ خلاب لا حسابات له، حواجز القهر السلطوي وتحدّى قمع المُجتمع مُدعي التدين.
كان المبدع الشاب وقتها يتحدث عن جمال بلاده المحجوب بواسطة أدعياء الدين، ويسرد باعتزاز سحر أرضه وناسه، ويفخر بقيم الصفاء والمودة والأخوّة السائدة والمُستقاة من المُجتمع القبلي الفطري غير المؤدلج والمُسيّس.
يصر ساكن على أن الصراعات في السودان مصطنعة، والحروب مُتعمّدة وموجهة لخدمة مصالح ضيقة، أما الناس فبطبيعتهم ينشدون السلام والأمان، معبّرا عن ضيقه بالرقابة وسطوتها وأردية الدين التي كان يرتديها النظام السوداني بقيادة الرئيس المعزول عمر البشير، في وجه معارضيه، ولذلك اختار الكتابة كسبيل للمقاومة لأنها قادرة على التأثير في من يتلقاها.
ربما وجد في فراقه للوطن وتشتته في تجربة الاغتراب لاجئا، ضرورة ليبقى قادرا على رسم بلاده للعالم أجمع عبر الأدب كما أحبها، لا كما حاولوا تصويرها.
أحلام بسيطة وعميقة
لم يكن غريبا أن يعلن الأديب أن حلمه بسيط كحديثه، فهو لا يرغب سوى في حياة هادئة، بلا قهر أو كراهية، بلا تكفير أو تخوين، ساعيا نحو فرصة استقرار وعيش في أوروبا حيث المدنية والتحضر واحترام سيادة القانون.
في سبيل ذلك الحلم، كان عليه أن ينتقل من بلد إلى بلد، ومن محيط ثقافي إلى آخر ليستقر في النهاية في مدينة مونبلييه بفرنسا، ليبزغ هناك كمبدع عربي معروف يقدم كتابة مختلفة بلغة متجددة.
بالطبع يعي الرجل جيدا أن استمراره في الكتابة أمر لا فصال فيه، ليُقدم كلمة الإنسان المقاوم للحرب والدمار والوجع الذي لا تبرره مصالح أو أيديولوجيات أو عقائد دينية.
قال ساكن لـ”العرب” عقب نبأ فوزه بالجائزة، إنها اعتراف بأن الكلمة هي أفضل مقاومة للصراعات الأزلية لبني الإنسان، فالتكريم، والاحتفاء مهما كان نوعه، هما دليلان واضحان على أن المدنية والتحضر والتعايش تنتصر في النهاية باعتبارها من القيم الحاضنة للإبداع والجمال، وأنه لا سبيل للإنسان من الثقافة لأنها لغة التواصل بين المختلفين لغة ولونا وعقيدة.
الصراعات في السودان يراها ساكن مصطنعة، وهو يعتبر أن الحروب هناك مُتعمّدة وموجهة لخدمة مصالح ضيقة، أما الناس فبطبيعتهم ينشدون السلام والأمان، ولذلك اختار الكتابة كسبيل للمقاومة لأنها قادرة على التأثير في من يتلقاها
وأوضح الروائي السوداني “أنه سعيد لأن روايته (الجنقو.. مسامير الأرض) تحديدا هي الفائزة بالجائزة لأنها تمثل له صرخة احتجاج ضد الحروب والصراعات الدموية، وتنتصر للتسامح الديني وتقبّل الآخر، فقد ولدت في ظل أوجاع إنسانية عايشها وتابعها بنفسه”.
ومثلت الأوجاع الإنسانية جانبا مهمّا في تشكيل شخصية الكاتب السوداني وأسهمت في تكوين جزء هام من مشروعه الأدبي، فالرجل الذي ولد وتربي وعاش طفولته ومراهقته وشبابه في ظل حروب وتوترات ونزاعات مريرة، آمن بالسلام والتعايش بين المختلفين كأساس عام ينبني عليه مجد الإنسان.
ولد ساكن في مدينة كسلا في شرق السودان سنة 1963 وكان والده جنديا في الجيش. الكثير من أقاربه قضوا في حروب غريبة نشأت وتواصلت، ولم تترك للناس سوى الخراب والوجع والمعاناة.
على مدى نصف قرن وأكثر والحرب دائرة لا تنقطع في مناطق مختلفة من السودان، في الشرق والجنوب والغرب، وحتى الخرطوم نفسها لم تسلم من الصراعات. وكأن الحرب فعل اعتياد يوميّ لدى الناس، ومشاهد القتلى وحكايات المشردين أمر مكتوب على الجميع.
كُل ذلك ولّد نفورا وكراهية شديدين لدى المبدع الصغير تجاه الحرب والقتل، وشعر في قرارة نفسه أن مهمته الأولى أن يصرخ في وجه القتلة ليتوقفوا، ولم يكن هناك أفضل من الحكاية للجهر بكلمة “لا” عالية ضد الحروب وموجات الكراهية، وتعلم الفتى الصغير فن الحكي من جديه اللذين ارتحلا من أرض إلى أخرى، ومرا بغابات ووديان ومُدن عديدة ليستقرا في النهاية في كسلا، بعد أن عايشا أعراقا متباينة.
ويقول ساكن إنه نشأ في بيئة تحتفي بالغرائب، فلم يكن يمر أسبوع أو شهر إلا ويتداول الناس حكاية مدهشة حدثت للبعض، ولم يكن مهمّا إذا كانت قد حدثت بالفعل أم لا، لكن المهمّ أن الناس تصدقها وتحكيها للأطفال ويتم تحريفها مرارا. وفي سن الثالثة عشرة كتب أولى قصصه الطويلة ليعجب بها مدرّسه ويطلب منه قراءتها على زملائه، مما آثار لديه شعورا بالأهمية والتميز.
من السودان إلى مصر
سعى إلى دراسة الأدب بشكل فعلي في أكاديمية الفنون، غير أن عائلته رفضت وأرسلته إلى مدينة أسيوط في جنوب مصر لتعلم التجارة. وكأنها حرّرته وساعدته على التعلم، حيث استغل إقامته في مصر للاطلاع وقراءة كُتب جيل الأدباء الرواد، والارتباط بالوسط الثقافي والأدبي المصري، ما كان له الأثر البالغ في تكوين ذائقة أدبية متميزة أهلته لأن يُصدر مجموعته القصصية الأولى بعنوان “على هامش الأرصفة” في العام 2005.
وعن تلك الفترة يقول “كنت متأثرا بقصص الخوف والرعب لإدغار آلان بو، وحكايات ألف ليلة وليلة، كما كنت مهتما بكتابات فيكتور هوغو، إميل زولا، وتشارلز ديكنز، وكنت أرى أن السودان لديه قصص وحكايات أكثر رعبا وتشويقا”. وأصبح عليه أن يكتب بعين الإنسان الحقيقي دون تهوين أو تهويل، مُتخذا لذاته خطا جديدا يُبشر بالمنسيين. لم يتحمل مناخ القمع السلطوي السائد في السودان وقتها، والمتدثر بثياب التدين الظاهري، حيث لجأت السلطات إلى مصادرة مجموعته الأولى قبل توزيعها، ما جعله معروفا ومطلوبا لدى شرائح واسعة من القراء والذين يرون أن كل ممنوع مطلوب.
وكان من الغريب أن تستمر سياسة المصادرة عملا بعد آخر بشكل آلي وروتيني، بعد أن ساد اعتقاد جازم لدى الرقباء في السودان أن ذلك الكاتب يكسر المحرمات، ويتخطى حدود العادات والتقاليد ويكشف عورات المجتمع.
وبدت السمة الغالبة على كتابات ساكن وحدها هي الصدق الإنساني، ونقل حيوات المهمّشين والمنسيين والمُبعدين عن الصورة الرسمية، والتوغل في مجتمعات ثانوية أو ثالثوية بعيدة عن العاصمة السودانية، وبعيدة عن الإعلام المقروء والمرئي، وكان يخترق حدود الرسمي ويتسلل إلى بيئات القبائل والمناطق النائية حيث العادات مختلفة والقيم متباينة، وسجلات المنسيين أكبر من أن تستوعبهم حكاية واحدة. فبات مهموما بحكايات الفقراء، المرضى، الجوعى، الشحاذين، المثليين، القوادين، المتشردين، العمال الموسميين، والمجانين، وغيرهم من الساقطين من أي حسابات. في تلك الأثناء ولدت بدائعه الروائية والقصصية مثل “مسيح دارفور”، “الجنقو.. مسامير الأرض”، “موسيقى العظام”، “الرجل الخراب،” الطواحين”، “ما يتبقى كل ليلة من الليل”، “مانفيستو الديك النوبي”، وغيرها من الإبداعات التي سرعان ما وجدت مكانا ومكانة لدى قراء الرواية.
ولم تكن قائمة الاتهامات المُكررة تجاه الأديب سوى دافع للترويج له بشكل أكبر ليختاره الشباب السوداني باعتباره مبدع الجيل والمعبر عن أمانيهم وأحلامهم وأفكارهم. وفي هذا الإطار من الطبيعي أن يحصد المبدع ثمار كدّه ونبوغه ليفوز في سنة 2016 بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، ثم يتوج في سنة 2017 بجائزة “سين” للأدب بمعرض جنيف الدولي للكتاب بسويسرا عن رواية “مسيح دارفور”.
أسلوب فريد
الأوجاع الإنسانية تمثّل جانبا مهمّا في شخصية ساكن، مسهمة في تكوين مشروعه الأدبي، وهو الذي ولد وتربي وعاش طفولته ومراهقته وشبابه في ظل توترات ونزاعات مريرة
أبرز ما يميز أسلوب ساكن السردي، حرصه على تشكيل لغة خاصة به تمثل خليطا بين الفصحى واللغات واللهجات المحلية لأبناء مناطق متباينة من السودان، وهي أقرب في نطقها إلى الشعر المحلي، كأنه يُقر بأن السودان نتاج فسيفساء ثقافية واجتماعية ثرية. وكما يعتمد تقنيات فنية متعددة في أعماله مثل السرد بضمير الأنا، أو الراوي العليم، أو التنقل بين أصوات متباينة ومتعددة، نجده مهتما بالربط الدائم بالتاريخ، كأنه دائري الحركة، إذ تتكرر شخوصه وأحداثه وأوجاعه بتغييرات طفيفة، ونجده مكررا للتفاصيل والوقائع الغرائبية التي تمثل سمة غالبة على حكي أبناء القبائل البعيدينعن المدن، وكأنه يقول إن السودان ليس الخرطوم وحده، أو صراعات الدم والحروب العبثية وجرائم الإخوان، وإنما هو مجموعة عوالم متناقضة تصلح نموذجا لأرض تعايش وتواصل إنساني فريد.
ويدرك الأديب الخمسيني قيمة الحرية ويتصورها الطريق الأيسر لبزوغ المبدعين، ما جعله جديرا بحيازة جائزة باريس وقبلها محبة القراء والجمهور من السودانيين والعرب.يبدو ساكن في مهجره موصولا ببلاده، متابعا لتطوراتها، مساندا لشبابها الطامحين إلى التغيير وإزاحة قوى التسلط الديني، إذ يقول في إحدى إطلالاته إبان الحراك الشعبي في السودان العام الماضي “إن الجوع، الظلم، المرض، الفساد السياسي، والمحسوبية، هي المولد الحقيقي لثورة السودانيين ضد النظام البغيض”.
وفي وعيه يبقى السودان بلد التعدد لا التوحد، أرض التنوع والاختلاف، لا يمثل حضارة واحدة، ولا شعبا واحدا أو فكرا واحدا، إنما هو بلد جماله في اختلافاته وألوانه وتعدده، ويكمن انتعاشه في احترام ذلك التعدد والتأقلم معه، وتحويله إلى طاقة إنتاج وإبداع وتحضر، وهو ما يستلزم في البداية والنهاية حرية بلا حدود.