عبدالعالي رزاقي أجبره النظام الجزائري على الصمت بسبب قصيدة سياسية

أكاديمي وإعلامي كرّس تجربته الأدبية والإعلامية في معارضة السلطة.
الأحد 2023/06/04
فارس الكلمة الحرة

الجزائر- قضى عبدالعالي رزاقي عمره وفيا لمبادئه وأفكاره، وظل وفيا لحياة الجزائريين البسطاء، ففيما غيّر الكثير من الرفاق نهجهم واختاروا البلاط خدمة لمصالحهم الضيقة، ظل الرجل مترددا على الأماكن العامة والأسواق، ليس لقضاء حاجياته، وإنما لملامسة نبض الشارع وتغيرات المجتمع، خاصة فيما يتعلق بالفجوة المتفاقمة بين الشعب والنظام السياسي، وجاءت فرصة الحراك الشعبي لتثبّت الرجل في خندق التغيير وظل متمسكا بموقفه، بينما اختار الآخرون التلون بما أملته الضرورات المتسارعة.

ترك رحيل الأكاديمي والإعلامي عبدالعالي رزاقي فراغا كبيرا في المشهد الإعلامي والأكاديمي، ولدى أنصار التغيير السياسي، الذين فقدوا صوتا وموقفا ثابتا غرست جذوره منذ عقود، لما بزغ الرجل في مجال القصيدة السياسية الناقدة للنظام، وامتدت إلى آخر أيام عمره، فرغم الحصار إلا أنه ظل غير متردد في الإدلاء بدلوه في الشأن المحلي والعربي متى أتيحت له الفرصة.

بكته جموع الصحافيين والأساتذة الذين تكونوا على يديه، والنخب التي احتكت أو عرفته عن قرب، فكان الفقد المحزن للمجتمع الجزائري، خاصة أولئك الذين كانوا يجدون فيه صوتهم الصادح من أجل جزائر يتطلعون إليها، بعيدا عن تراكمات عقود الفشل والخيبة، خاصة وهو الذي ظل على تماس بحياتهم البسيطة وطموحاتهم المشروعة.

بوكس

وصف رزاقي، منذ شبابه بـ”فارس الكلمة الحرة”، ففي بدايات إبداعاته الشعرية الجريئة الناقدة للسلطة في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، اصطدم بالرقيب الرسمي الذي أجبره على التخلي عن نظم الشعر، لأن كلماته أزعجت رجالات السلطة.

وكلفته قصيدة “هموم مواطن يدعى عبدالعال” الاستنطاق والمساءلة من طرف مصالح الأمن في ثمانينات القرن الماضي، وللرجل ثلاثة دواوين شعرية: “هموم مواطن يدعى عبد العال”، و”الحب في درجة الصفر”، و”أطفال بورسعيد يهاجرون إلى أول ماي”، و”الحسن بن الصبّاح”.

وشغل رزاقي منصب رئيس الجمعية الجزائرية لأدب الطفل، كما كان عضوا في اتحاد الكتاب الجزائريين ومسؤولا فيه، ومثّل الجزائر في العديد من المهرجانات الدولية.

دفاع عن الحراك

اشتهر رزاقي، الأستاذ المتقاعد من الجامعة، بدفاعه المستميت عن الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير 2019، وكلفته مواقفه الجريئة الاعتقال في يونيو 2021، قبل أن يتم إطلاق سراحه، لكنه ظل محاصرا في مختلف المنابر الإعلامية المحلية، غير أنه لم يكن يتوانى في التعبير عن مواقفه وعن مطالب الشارع الجزائري في مختلف المنابر العربية والدولية، ولذلك ظل مصدر صداع حقيقي للسلطة.

وقال في شأنه سياسي معارض للسلطة إن “الجزائر فقدت رجلا أكاديميا من الطراز العالي، وشخصية استثنائية في مهنيتها وفي أخلاقها، والتزامه بالتواضع وبالبساطة كجامعي متفانٍ، جعله يكون في معسكر النضال، رغم الصعوبات التي واجهها والترهيب الذي كان ضحية له، لقد ظل شجاعا ومخلصا ومؤثرا، وإن مداخلاته وحضوره الإعلامي أضافا مادة جوهرية ومضمونا دسما في النقاشات”.

أما الكاتب والإعلامي أحميدة العياشي، فقد قال فيه “ظل يحمل تمرده معه حيث حل، ولم يتوقف عن الكتابة في الجزائر الوطنية والمجلات العربية، أغلبها كانت صحفية وذات توجه سياسي سجالي”.

وأضاف “كتب رزاقي عن النضال بواسطة الصحافة طوال فترة التسعينات، وكان عكس معظم الكتاب والمثقفين الذين صمتوا أو هاجروا إلى أوروبا أو الخليج، فلقد راسل الجرائد العربية الكبرى، وقدّم عدة تقارير صحفية وحوارات عن الوضع الأمني في الجزائر”.

بوكس

وفي تدوينة للوزير السابق والكاتب عزالدين ميهوبي، ذكر فيها، “عبدالعالي الذي تعرفت عليه قبل أربعين عاما، لم يتغير أبدا، رغم خفوت صوت الشاعر لديه، واهتمامه بالشأن السياسي”.

وأضاف “كان يدعوني لإلقاء محاضرات في تجربة كتابة المقال والافتتاحية، بمعهد علوم الإعلام والاتصال، وكان أحيانا ينتقدني بحدة، غير أن مواقفه مني لم تفسد شيئا من علاقتنا التي لا تتأثر بالظروف، وعندما نلتقي يضحك ويقول لي: في السياسة عليك أن تتحمّل الضرب”.

مما رواه الراحل حول انقطاعه عن تجربة الشعر في تصريح له مع صحيفة محلية، قوله “أصدرت أول ديوان في 1977 ’الحب في درجة الصفر’ ثم ’أطفال بورسعيد يهاجرون إلى أول ماي’، وقدمته إلى المؤسسة الوطنية للنشر والتوزيع التي رفضته دون إعطاء مبررات”.

وقال “خلال هذه الفترة صادفت وجود الناقد المصري المعروف غالي شكري في الجزائر الذي قرأ الديوان فاقترح عليّ أن أتركه معه قصد نشره، وبعد شهر صدر عن دار الآفاق في بيروت مع مقدمة خاصة به”.

وأضاف “في ’هموم مواطن يدعى عبدالعال”، انتقلت إلى كتابة القصيدة الحديثة، والتي كان هدفها وصف حالة عيش المواطن الجزائري، حيث تصورت أن الدم الجزائري بترول يهرّب إلى الخارج”.

وكشف أن القصيدة “صودرت وتم استنطاقي في وزارة الدفاع، وعندما صدر الديوان استدعيت من طرف أجهزة الأمن وتم توثيق استنطاقي بالكاميرا وتعاملوا معي كأنني خارج عن القانون، وطلبوا مني توقيع محضر الاستنطاق ويتضمن وثيقة تعهد بعدم العودة إلى كتابة الشعر، ووقعت الوثيقة”.

وتابع “أذكر أنني قلت كلمة أثارت استياء أعضاء اللجنة، حيث قلت: إذا أردنا أن نعرف الشعر فأقول إن الشعر هو نحن والشعر هو الذي يمارس علينا، وفي جمع الحالات خرجت بنتيجة هي أن النظرة الأمنية إلى الشاعر لا تختلف عن نظرة الأسرة والمجتمع وهي نظرة استخفاف واحتقار حيث يعتبر الفن بجميع أشكاله إساءة إلى العائلة”.

ضريبة الكتابة الملتزمة

خلص الشاعر الراحل إلى أنه “إذا أردنا تغيير هذه النظرة فيجب إدخال الشعر إلى العائلة. قديما كان الشاب إذا أحب فتاة أهداها قصيدة. لهذا كانت تلك المجتمعات تتمتع بذوق رفيع. وعندما نقل الشعر إلى المسابقات فقد قيمته لأنه فقد تلك الخصوصية التي تخلق علاقة بين الشاعر وفنه وأنتجت لنا بلاتوهات التلفزيون شعراء البلاط”.

مهدت تجربة الشعر المتعثرة عند رزاقي لتجربة أخرى ميزت مسيرته، وهي المقال السياسي على دفات مختلف المنابر الإعلامية المحلية والعربية، خاصة الصحف الورقية والمجلات.

كما ألف العديد من الكتب، كـ”جمهورية العسكر في الوطن العربي”، و”الأحزاب السياسية في الجزائر.. خلفيات وحقائق”، و”المهنة صحفي محترف: قوانين الإعلام وأخلاقيات الصحافة في 22 دولة عربية”، و”فرعون الهكسوس شيشناق في القرآن والإنجيل والتوراة.. من مصحف فاطمة والنبي خالد إلى القرآن البربري”، فضلا عن “الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية في الجزائر.. من بشير شيهاني إلى القايد صالح: آفاق الدولة المدنية”.

صداع في رأس السلطة

◙ اللقاء مع بوتفليقة لم يمنع رزاقي من الصدام مع النظام
اللقاء مع بوتفليقة لم يمنع رزاقي من الصدام مع النظام

لعل الكتاب الأخير هو الذي صنع صداع السلطة، وجلب المتاعب للرجل في آخر العمر، ولذلك لم ير النور إلى حد الآن، ورغم ذلك نفى الرجل أن يكون اعتقاله العام 2021 بسبب ذلك الكتاب، رغم ما يتضمنه من ألغام ما يزال بعضها في خانة أسرار الدولة.

لم تكن السلطة في حاجة إلى تعكير أكبر للمناخ السياسي، بإثارة الشكوك حول وفاة قائد أركان الجيش السابق الجنرال أحمد قايد صالح، قياسا ما للأمر من ثقل وتأثير في تركيبة التوازنات ودوائر النفوذ داخل أعتى وأقوى مؤسسة في البلاد، ولذلك لم تسمح بصدور المؤلف المذكور، خاصة وأن مسألة الاغتيالات والتصفيات الجسدية بين رموز النخب الحاكمة تمثل واحد من “التابوهات” المحرمة على التداول أو الخوض فيها.

بوكس

وللمقال السياسي عن الراحل رزاقي، ميزة خاصة تجمع فيه بين المعلومة والقراءة من أجل موقف وليس لتأييد أو معارضة وجهة نظر. وقال بشأنه “أنا لا أكتب المقال السياسي، لكن أسرّب معلومات عبر المقال. في البداية، فكرت في أن أكتب عن الكتب التي أقرأها لكن نسبة القراءة ربما لن تتجاوز بضع عشرات لأن الناس تحب قراءة ما يعنيها بالدرجة الأولى وما يرتبط بواقعها فلجأت إلى المقال الذي أحاول من خلاله تقديم معلومات للقارئ”.

يقول رزاقي “أعتقد أن التحليل في الجزائر لا معنى له، لأنه من الصعب أن تبني تحليلا صحيحا إذا لم توثق معلوماتك ولم تكن مبنية على قواعد صحيحة.
في الجزائر، ليس هناك انتظام في مواعيد الهيئة التنفيذية. مثلا الذي يسمح لك ببناء تحليلات سليمة لإعطاء وجهات نظر حول الشأن السياسي. لذا، أنا أجتهد في جمع المعلومات وتقديمها للقارئ لأننا في حاجة إلى قارئ يتخذ موقفا وليس إلى قارئ يؤيد وجهة نظرنا”.

وللرجل طريقة خاصة في تعبئة مصادره، بالنسبة إليه وزير أو حاجب وزارة متساويان، وأحيانا الثاني يكون أفيد من الأول.

ويذكر في هذا الخصوص “أقيم علاقات مع كل الناس من الضباط إلى رئيس الحزب إلى البواب ورجل الشارع. وفي بعض الأحيان المعلومات التي يقدمها لك البواب لا يقدمها لك الرسميون فقد أنجزت تحقيقا حول المسيحيين بقيت أسبوعا مع بواب الأبرشية”.

ويكشف “عندما ذهبت إلى مدينة بشّار سألت الوالي والرسميين من يصطاد في محافظتهم الحيوانات والطيور النادرة، كلهم أنكروا وجود الظاهرة أصلا لكن وبالصدفة نزلت لأشرب قهوة في منطقة (واكدة)، هناك التقيت بأناس بسطاء سألتهم فقدموا لي كل المعلومات عن وزير دفاع في دولة خليجية يأتي للاصطياد هناك”.

أخذت مواقف الرجل منحى ناقدا ومعارضا للسلطة منذ توجهها إلى الحكم المفتوح للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، بعد رفع الحاجز الدستوري العام 2009، فظل كاتبا ومناضلا سياسيا، حاضرا بمواقفه وأفكاره في مختلف المنابر الإعلامية، وكان أحد الناشطين الميدانيين في فواعل المعارضة السياسية التي ظهرت آنذاك على غرار تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي، ومع اندلاع احتجاجات الحراك الشعبي تصدر المظاهرات والوقفات الاحتجاجية في النهار، ويطل على الجمهور عبر الشاشات والإذاعات الدولية في المساء، بعد أن حظر عليه ذلك في الإعلام الداخلي.

◙ حضور إعلامي داخلي وخارجي رغم ضغوط السلطة
حضور إعلامي داخلي وخارجي رغم ضغوط السلطة

 

7