عبدالسلام بوشوارب الوزير المطلوب للقضاء في صلب أزمة سياسية بين الجزائر وفرنسا

عندما طلب وزير الصناعة السابق عبدالسلام بوشوارب من القضاء الفرنسي رفض طلب سلطات بلاده لترحيله، لم يستبعد البعض أن يكون فريق دفاعه قد استفاد من العلاقة التاريخية لوالد الوزير بالفرنسيين كونه كان أحد المتعاونين معهم خلال الحقبة الاستعمارية، وهو ما كان يردده النائب السابق طاهر ميسوم أمام الملأ داخل قبة البرلمان خلال العهدة النيابية (2012 – 2017)، للتنديد واستهجان خيارات وسياسة الوزير الذي لم يتردد بوصفه بـ”عميل فرنسا” و”ابن القايد”.
لكن مراقبين يستبعدون أن يتم ربط محاكمة وزير بقضايا الماضي، وإلا ما كان النظام الجزائري قد سماه وزيرا لقطاع مهم مثل الصناعة، معتبرين أن الأمر يدخل ضمن مقاربة الصراع مع فترة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.
و”القايد”، رتبة استحدثها الاستعمار الفرنسي في تصنيف وترتيب العملاء والمتعاونين معه من الأهالي، وهي رتبة مرموقة تضع تحت إمرته رقعة واسعة من الجغرافيا والسكان، ولذلك فهو صاحب نفوذ على السكان وحظوة لدى الفرنسيين، وهذه الوضعية التاريخية كفيلة بترجيح الكفة لصالح الوزير الموجود في باريس، خاصة وأنه يحمل هو الآخر جنسية فرنسية، حسب النائب طاهر ميسوم.
◄ رغم الظاهر القانوني لملف وزير الصناعة السابق، إلا أن القرار سيحمل أبعادا سياسية، في ظل الأزمة القائمة بين الجزائر وفرنسا
ورغم الحملة التي شنّها ضده النائب المذكور، إلا أن الرجل ظل محافظا على أعصابه ولا يهتم لما يتردد ضده، لكنه وضع ميسوم على حافة الإفلاس، بعدما جرّه إلى معارك رقابية مع المصالح الحكومية، وجرجرته أمام المحاكم التي قضى بعضها بسجن الرجل.
غير أن إفرازات الحراك الشعبي المندلع العام 2019، وضعت الوزير ومجموعة من وجهاء حقبة بوتفليقة، من وزراء ورؤساء حكومات وضباط عسكريين ورجال أعمال وزعماء أحزاب سياسية، تحت قبضة السلطة الجديدة التي تصنفهم ضمن خانة “العصابة”.
وكان بوشوارب أحد القلائل الذين نفذوا بجلدهم، حيث توجه في بداية الأمر إلى لبنان، ثم إلى فرنسا، وتردد على مدن وعواصم أوروبية قبل أن يستقر به المقام تحت الرقابة القضائية، في انتظار فصل القضاء في طلب الحكومة الجزائرية لترحيله.
ووضع ملف بوشوارب العلاقات الجزائرية – الفرنسية أمام اختبار جديد، فالقرار المنتظر الإعلان عنه سيساهم حتما في حلحلة نسبية للأزمة القائمة بين البلدين، كما يمكن أن يعقدها أكثر، ففيما تصر الجزائر على استلام بوشوارب، لم يتردد الرجل في توجيه رسالة للقضاء الفرنسي تقضي بعدم تسليمه إلى سلطات بلاده.
ورغم الظاهر القانوني والتشريعي للملف، إلا أن القرار سيحمل أبعادا سياسية، في ظل الأزمة القائمة بين البلدين منذ اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء، وما لحقه من سحب للسفير الجزائري في باريس، وهو يمثل اختبارا حقيقيا لعودة التطبيع بين الطرفين، أو التنافر أكثر بينهما.
وإذ تنظر فرنسا إلى الملف بعيون القانون والتشريعات الناظمة لحالة وزير الصناعة، حيث سبق لقضائها أن رفض تسليم مطلوبين جزائريين بدعوى النشاط السياسي وعدم وجود ضمانات على سلامة حياتهم، فإن الجزائر تعتبره فرصة للسلطات الفرنسية لإثبات نواياها في تطبيع العلاقات معها.
ودفع فريق الدفاع بورقة تصفية الحسابات السياسية بين السلطة القائمة في الجزائر، وبين السلطة السابقة بقيادة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وأن موكلهم ربما يكون معرضا للانتقام بسبب انتمائه إلى ما بات يوصف في الجزائر، بحقبة “العصابة”، في إشارة إلى النخبة التي أطاح بها الحراك الشعبي في 2019.
وناشد المحامي بنجامين بوهبوت، القضاء الفرنسي بـ”عدم الموافقة على ترحيل موكله، بدعوى أن هذه الأحكام لا تتوافق مع المعايير الدولية، وأن الملاحقات القضائية ضده تأتي في إطار تصفيات سياسية مرتبطة بحملة تطهير البلاد من حقبة الرئيس الراحل بوتفليقة”.
وصرح بوشوارب من ناحيته بأنه “يطلب من القضاء الفرنسي عدم تلبية طلب الاستلام المقدم من طرف السلطات الجزائرية، بالنظر إلى الأخطار التي تهدد حياته، خاصة وأن هناك أحكاما قاسية تصل إلى مئة عام سجنا نافذا، فضلا عن تأميم جميع ممتلكاته وعقاراته في إطار تصفية حسابات سياسية لا غير“.
واستبعد رجل القانون عبدالمجيد سليني أن “يخضع القضاء الفرنسي للضغوط أو محاولات التأثير التي تقوم بها بعض الأطراف، وأن النصوص صريحة وقاطعة في هذا المجال، خاصة وأن البلدين تربطهما اتفاقية تبادل المطلوبين للقضاء، إلا في حالة الأبعاد السياسية والحقوقية التي يستثنيها القانون الفرنسي، ويبقى الأمر مرتبطا بنوعية وجدوى الدفوع (الحجج) التي يقدمها الطرف الطالب (الحكومة الجزائرية)، أو فريق الدفاع عن المتهم “.
ونظرت المحكمة الفرنسية في ثمانية طلبات تسليم قدمتها السلطات الجزائرية لاستلام بوشوارب، ثلاثة منها تتعلق بفتح ملاحقات قضائية، وخمسة لتنفيذ أحكام بالسجن تصل إلى 20 عاما لكل منها، بالإضافة إلى غرامات مالية، ومصادرة ممتلكاته بتهم الفساد، والرشوة، وتضارب المصالح، واختلاس الأموال العامة.
ويعتبر بوشوارب أحد الوجوه السياسية والرسمية المحسوبة على حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، حيث شغل عدة مناصب في حكومات متعاقبة، فضلا عن عضويته القيادية في حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي كان يشكل أحد أضلاع التحالف الحزبي المؤيد حينها للرئيس الراحل بوتفليقة، كما كان يعتبر الذراع القوية لرئيس الحكومة المسجون أحمد أويحيي.
وتتزامن تطورات الملف مع أزمة سياسية متجددة بين البلدين، على خلفية اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء، والذي ردت عليه الجزائر بسحب سفيرها سعيد موسي من باريس.
لكن رسائل إيجابية أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على هامش انتخاب الرئيس عبدالمجيد تبون، لولاية رئاسية ثانية، حيث كان أول الرؤساء المهنئين له، عكس الانتخابات التي جرت في 2019، كما أوفد مستشارته الخاصة للتهنئة، فضلا عن تصريحه مجددا عن أنه “مصمم على تسوية ملف التاريخ والذاكرة المشتركة مع الجزائر رغم التوترات”، وهذا ما يعطي الانطباع أن فرنسا تريد تطبيع علاقاتها مع الجزائر.
ويرى مراقبون أن السلطات الجزائرية لا تنظر إلى رسائل ماكرون بحماس، وما يهمها هو موافقة القضاء الفرنسي على تسليمها الوزير المطلوب للقضاء الجزائري، بما يمثله من ثقل في أجندتها وخطابها حول محاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، ومعاقبة الوجوه التي تلاعبت بمقدرات الجزائريين خلال حقبة الرئيس السابق.
وكانت الرئاسة الجزائرية قد برمجت زيارة الرئيس تبون إلى فرنسا نهاية الشهر الجاري أو مطلع الشهر القادم، منذ أشهر وحتى قبل تنظيم الانتخابات الرئاسية، لكن القرار الفرنسي بالاعتراف بمغربية الصحراء، فخخ العلاقات مجددا وأعاد التوتر بين البلدين إلى الواجهة.
◄ رغم الظاهر القانوني لملف وزير الصناعة السابق، إلا أن القرار سيحمل أبعادا سياسية، في ظل الأزمة القائمة بين الجزائر وفرنسا
ويتواجد بوشوارب (72 عاما) تحت الرقابة القضائية في فرنسا منذ 11 شهرا، بسبب الطلبات المتكررة من طرف الحكومة الجزائرية لتسليمه، وعلى مدى الأشهر الماضية، طلب القضاء الفرنسي من السلطات القضائية الجزائرية تقديم معلومات إضافية حول بعض الجوانب القانونية، كما طالبوا بتعهد رسمي بعدم تنفيذ عقوبة الإعدام في حال صدور حكم بها.
وسبق لصحيفة “لوتون” السويسرية أن كشفت عن أن القضاء السويسري جمد حسابا بنكيا مملوكا لبوشوارب في جنيف، يحتوي مبلغا بقيمة 1.7 مليون أورو بعد طلب من الجزائر، بعد أن قالت السلطات الجزائرية إنها ضبطت 27 تحويلا بين عامي 2012 و2016 بقيمة إجمالية قدرها 31 مليون دولار، فضلا عن إنشاء شركة “أوفشور” في بنما العام 2015 للسماح بفتح حساب في سويسرا لنقل 700 ألف يورو من لوكسمبورغ.
وتتزامن تطورات قضية الوزير بوشوارب مع أزمة سياسية متراكمة بين البلدين، ولا يستبعد أن تكون رسالة حسن نية فرنسية للجزائريين، وتقديمه قربانا لهم من أجل تطبيع العلاقات مجددا.
وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه “مصمم على مواصلة عمل الذاكرة والحقيقة والمصالحة مع الجزائر على خلفية الاستعمار الفرنسي، رغم التوترات”.
وقالت الرئاسة الفرنسية إن ماكرون أعرب خلال لقاء عقد في قصر الإليزيه مع مؤرخين عن “رغبته في نجاح العمل الذي تجريه لجنة المؤرخين الفرنسية – الجزائرية، وفي تنفيذ المقترحات الملموسة التي صاغتها اللجنة المشتركة”.
وكانت اللجنة المشتركة قد تعثرت جهودها خلال الأسابيع الماضية رغم الخطوات التي قطعتها، حيث ذكرت مصادر جزائرية أن فرنسا لا زالت ترفض تسليمها بعض أغراض مؤسس المقاومة الجزائرية الأمير عبدالقادر، وبعض الآثار المهربة خلال الحقبة الاستعمارية.
وأضاف الإليزيه أن “ماكرون يأمل أن تسمح هذه المقترحات لبلادنا بإلقاء نظرة واضحة على الماضي وبناء مصالحة على مستوى الذاكرة في المدى البعيد، في عملية تعليم ونقل للشبيبة الفرنسية والجزائرية”.