عبدالرحيم سالم تجربة فنية حملت رموز الثقافة الإماراتية إلى العالمية

فنان حول المهيرة من أسطورة إماراتية إلى رمز متعدد الأشكال.
السبت 2024/11/02
المهيرة أسطورة إماراتية ترافق الفنان منذ بداياته

تأثر الفنان الإماراتي عبدالرحيم سالم بأسطورة المهيرة كما تأثر بتجربتي مايكل أنجلو وليوناردو دافينشي. اطلع على الفن المصري وتتلمذ على يد أهم الفنانين المصريين، زار المتاحف وصقل هوايته أكاديميا، حتى أصبح واحدا من أهم الفنانين التشكيليين الإماراتيين، وهو ما تسلط عليه الضوء الناقدة عبير يونس في أحدث إصداراتها "أساطير التجريد".

يسلط هذا الكتاب “أساطير التجريد” للناقدة والكاتبة الصحفية عبير يونس الضوء على تجربة الفنان التشكيلي عبدالرحيم سالم الذي يعد واحدا من أهم رواد الفن التشكيلي الإماراتي والذي أسس مع زملائه للحركة التشكيلية المحلية وفي الوقت ذاته عمل على إيجاد تجربة فنية خاصة قادته إلى العالمية.

الكتاب الذي صدر عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية ضمن سلسلة “أعلام من الإمارات”، ترصد فيه يونس وتحلل الأساليب والرؤى والأفكار الفنية في مراحل تطور تجربة الفنان التشكيلية، وذلك انطلاقا من بداياته الأولى بدراسته في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وتعرفه على كبار أساتذة الفن وجولاته في المتاحف والمعارض ولقاءاته مع فناني مصر وعلاقاته بهم وبأعمالهم، ثم دوره الريادي في تأسيس جمعية الفنانين التشكيليين الإماراتيين ومعرض اليوم الواحد. ومن ثم جمعت يونس كتابها ما بين معترك السيرة الفنية والرؤية النقدية لتجربة الفنان، فضلا عن تضمينها لشهادات عدد من النقاد والفنانين التشكيليين الإماراتيين والعرب الذين واكبوا أعماله.

تقول يونس في كتابها “كان المتحف المصري مقصدا لسالم في السنة الثالثة من الدراسة الجامعية لأنه كان يعمل على مشروع محدد، وكانت مشاهدته لموجودات المتحف تقدم رؤية تسهل عمله على المشروع. إن الأعمال الفرعونية القديمة بكل ما تحمله من عظمة قادته إلى التأمل ودفعته إلى التفكير في كيفية إنجاز هذه المنحوتات على اختلاف أحجامها بشكل رائع دون أدوات متوفرة الآن، فبحث في طرق دراستهم للجسد والقماش وكيف تعاملوا مع شكل العين، وطرح الكثير من الأسئلة التي تجد إجابتها أحيانا في محيط هذا العالم الرائع، كما يصفه. لذلك جاء المتحف المصري بمثابة الكلية الثانية بالنسبة للفنان الإماراتي، واكتشاف عالم المتحف ترافقه بالضرورة القراءة والمشاهدة، لذلك تأسف على أن الدراسة في كلية الفنون الجميلة اقتصرت آنذاك على معلومات عن عصور الفراعنة المتعاقبة، دون أن تطال الجوانب المتعددة في العمل الفني نفسه”.

بوكس

وتوضح “لذلك بدأ سالم قراءة كتب فنية مترجمة إلى جانب قراءاته كتب الناقد الدكتور ثروت عكاشة (1921 – 2012) الذي كتب عن التاريخ الفرعوني والروماني وعصر النهضة، وغيرها من عصور وقضايا فنية مهمة”.

وترى يونس أن “عبدالرحيم سالم رغم مرور الكثير من السنين التي تنقل خلالها من الرسم كهواية إلى الرسم كمحترف، بقي هناك تفصيل فني لم يتخل عنه خلال رحلته، إنه تفصيل وصفه بالعادة التي لازمته من أيام دراسته الإعدادية، وهذا التفصيل مستوحى من أحد أعمال الإيطالي مايكل أنجلو فنان عصر النهضة، فقد كان سالم يطلع على أعمال أنجلو وأعمال ليوناردو دافنشي بدهشة وإعجاب شديدين، ويرى أنه لا يعلى على ما قدماه من أعمال فنية. هذا الإعجاب جعله يستوحي حركة اليد في لوحاته من حركة يد تمثال ‘النبي داوود’ لأنجلو، فحضرت طريقة التفافة هذه اليد مرات ومرات في لوحات سالم، تأكيدا على أن التأثر الفني والثقافي ملك للجميع، عند محافظة الفنان كما فعل سالم على شخصية أعماله وخصوصيتها وعلى التجربة التي أوجدها لتكون بمثابة بصمته الخاصة”.

وتضيف “بقي للاحتراف الذي وجده في أعمال هذين الفنانين بالغ الأثر في نفسه إلى درجة التعصب لهما أمام فنانين آخرين أحيانا، إذ كانت رؤيته لأعمال الفنان الإسباني بابلو بيكاسو تدفعه إلى التساؤل: لماذا لا يقدر بيكاسو أن ينجز أعمالا توازي أعمال أنجلو؟ لقد كان يفكر بهذه الطريقة عندما كان في مرحلة الدراسة الثانوية، أي عندما لم يكن يعرف الكثير عن فن وحياة بيكاسو رائد المدرسة التكعيبية، إلا أن هذه النظرة اختلفت أثناء دراسته في الكلية التي أكسبته القدرة على فهم من هو بيكاسو أو سلفادور دالي رائد المدرسة السريالية أو غيرهما من الفنانين المعاصرين الذين كان يقارنهم في فترة ما من الزمن مع دافنشي وأنجلو ويراهم صغارا”.

وتشير إلى أن “معرفة سالم بالفنانين المعاصرين لم تخفف من إعجابه الشديد والدائم بفن أنجلو، فالفن الرائع يحيا ويصل من يراه في الحياة، ولوحات أنجلو على سقف كنيسة ‘سيستاين’ في الفاتيكان، ما زال يصفها ربما كما يصفها الملايين من الناس بأنها مبهرة، ويتجدد إعجابه بها في كل مرة يراها أو تأتي إلى ذاكرته”.

وتلفت عبير يونس إلى أن “بداية سالم مع النحت جاءت في المرحلة الثانوية عندما كان في البحرين، وبمنحوتاته الأولى شارك بأكثر من معرض في المنامة، لكنه لم يكن يمتلك مبادئ النحت وقواعده السليمة إنما امتلك الرؤية وحرية التجريب، للوصول إلى منحوتات حملت في ثناياها أفكاره برؤية تختلف كليا عن رؤيته وتعامله مع الرسم، ولكونه لا يمتلك قواعد النحت ومبادئه، لم يتردد أبدا عند اتخاذه القرار الحاسم بأن يتخصص في قسم النحت عندما التحق بالدراسة في كلية الفنون الجميلة في القاهرة. وقد تحدث عن ذلك لاحقا بقوله: كنت أرسم بشكل جيد وأريد دراسة مختلفة عن الرسم الذي أعرف قواعده جيدا، وربما توجد أسباب أخرى دفعتني إلى هذا الخيار، منها إعجابي الشديد بمنحوتات الفنان الإيطالي مايكل أنجلو”.

لكنها توضح أنه “مهما كانت دوافعه وأسبابه فإن تعلمه قواعد النحت منحه القوة في جانبين، جانب رؤيته للشكل ودراسة الجسم البشري وتشريحه الفني، ومن جانب آخر نقل مهارته واحترافيته في النحت إلى الرسم، حيث يمكن للوحاته أن تمنح المشاهد شعورا بوجود كتل معينة بطريقة مختلفة عن الرسم المباشر”.

وتفسر أن “سالم تعامل في إنتاجه النحتي مع خامات مختلفة من بينها الحجر والطرق على النحاس، وبعد التخرج أنتج ثلاثة أعمال نحتية عندما كان يعمل في مركز حرق الخزف في الشارقة، معتبرا تلك الفترة امتدادا لدراسة النحت في الكلية أكثر من كونها امتدادا لتجربة أو لطرح فكرة أو موضوع، فجاءت المنحوتات ترجمة لما كان قد استفاد منه خلال الدراسة. وبعيدا عن النحت البارز ‘الريليف’ أنتج منحوتة مجسمة بعنوان ‘رقص’، استخدم فيها الخشب على ارتفاع يصل إلى حوالي الثمانين سنتيمترا، وهي تكوين لجسدين يتحركان بإيقاع واحد. كما شارك بعمل نفذه بأسلوب الطرق على النحاس في المعرض العام لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، استخدم فيه الصاج بالإضافة إلى النحاس، وفيه جسد امرأة بإتقان وهي في وضعية الجلوس”.

عبير يونس: سالم تعامل في إنتاجه النحتي مع خامات مختلفة من بينها الحجر والطرق على النحاس،

وتشير عبير يونس إلى أن عبدالرحيم سالم “لم يفكر كثيرا قبل اتخاذه قرارا قاطعا بأنه لن يكمل مسيرته كنحات فقط، وقد جاء هذا القرار في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي بدأ فيها بالتوجه إلى التركيز على موضوع ‘المهيرة’، ولكن هذا التوجه لم يمنعه من العودة إلى النحت في فترات غير منتظمة”.

وتقول “في عملية بقدر ما تبدو أنها معلنة إلا أنها في الوقت ذاته تخفي الكثير من الأسرار، أوجد سالم أساطيره اللونية من وحي المهيرة التي تحضر في كل لقاء يتكلم فيه عن أسباب اتجاهه للتجريد فهي، كما يوضح، امرأة عاشت في الشارقة في خمسينات القرن الماضي، ويقال إنها وقعت ضحية سحر فأصبحت مجنونة، كما يقال إنها كانت جميلة جدا، وكان هناك رجل يريد أن يقيم علاقة محرمة معها، لكنها رفضت ذلك بقوة، فحضر لها سحرا، ونتيجة السحر حولها إلى مجنونة. ولهذا دفعت ثمنا غاليا لأنها قالت لا لرجل”.

وتقول عبير “الآلاف من الناس سمعوا هذه الحكاية المتداولة عن المهيرة، ولكن سالم هو الذي توقف عندها بكل أحاسيسه لتصبح قضيته ويعبر عنها بأعمال كثيرة، وكلما ظن أنها ذابت بين ألوانه تتحداه من جديد مع أي قضية أخرى يرى أنها تحتاج إلى من يؤازرها، وهكذا استمر بهذا الاتجاه منذ أول ظهور للمهيرة في لوحاته عام 1991. وخلال مسيرته الممتدة لعقود مع المهيرة دفع عبدالرحيم غير قليل من الأثمان أو الأسباب التي أدت إلى نتيجة واحدة وهي الوصول إلى رؤية خاصة عن المهيرة، والتعامل المرن مع هذه الرؤية، وإن كان قد تخلى في هذه المسيرة عن النحت والأسلوب الواقعي في الرسم إلى أن وصل إلى حرية التعبير بالأسلوب التجريدي من خلال ضربات فرشاة حرة مهما تمايلت وتشعبت تقود في النهاية إلى عالم هذه الأسطورة، التي يعدها بمثابة توقيعه الشخصي، إنها الأسطورة التي أهدته التميز والجوائز”.

وتتابع “أما تعامله المبسط معها فقد بدأ بعد العام 2000، عبر تحرره من طريقة تناولها كجسد أو كشكل، متجها إلى الرمز الذي يستخرجه في الحقيقة من أعماقه، ويعبر من خلاله عن أفكاره وأسئلته وواقعه، وهي تتجلى على أسطح لوحاته بأشكال عدة، فمرة مربع ومرة أخرى مثلث أو مستطيل، ولا مانع في مرات أخرى أن يصبح هذا الرمز هلالا أو أي شيء آخر قد يستخدمه في المستقبل.. هذه الرمزية ساعدته على الاستمرار في عمله على هذه التجربة. يقول عنها ‘إنها تماما كرمزية رسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي مع حنظلة الذي كان يضعه كشاهد ورمز في كل أعماله ويحركه مع القضايا المختلفة، وأنا استخدمت المهيرة كرمز في أعمالي على اختلاف مواضيعها'”.

وتؤكد أن واحدا من أهم التطورات في تعامل سالم الفني مع هذه “الشخصية التراثية أو الأسطورية، أنه تصالح معها، فقد يعقد معها هدنة إن أرادت، ويترك لها حرية مغادرته في أوقات معينة على أن تأتي إليه في أوقات أخرى، وهو عكس ما مثلته المهيرة في السنوات الأولى، فقد كانت هاجسا يرافقه في كل أوقاته. لم يتقبل الكثير من الناس أسلوب التجريد في اللوحات الفنية لأنه يحتاج إلى تأمل عميق، وفي مثل هذه الحالات حين يكون المشاهد بمواجهة عمل تجريدي عليه أن يستعيد رؤيته إلى الطبيعة، فبعد حالات من التأمل سيقوده الخيال إلى تجريد رسمت به السماء غيومها، أو غابة بعيدة تداخلت ألوان أشجارها فظهرت وكأنها مساحات خضراء من دون أي تفاصيل.. إنه الأثر الذي يتركه التجريد الذي يبدو كالخيال بالنسبة للناس، فيحاولون توصيف هذا الخيال بالكلمات، فما من شيء يمكن رؤيته إلا وله معنى يتغير بتغير من يراه، وكذلك الأعمال التي تولد مع أي لوحة من أسطورة المهيرة سر سالم المعلن”.

◄ سالم أوجد أساطيره اللونية من وحي المهيرة التي تحضر في كل لقاء يتكلم فيه عن أسباب اتجاهه للتجريد فهي

وتوضح أن “من بين الألوان المتعددة التي شكلت اللوحة كانت المهيرة حاضرة في لوحة ‘الأمل’، كما حضرت في أي موضوع آخر طرحه وتفاعل معه، مثل اللوحة التي رسمها من وحي الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا فجر 6 فبراير عام 2023. وهكذا يستمر سالم بتجديد وجود المهيرة بمثابة رمز في أعماله على اختلافها، لأنها مع الأيام استطاعت أن تأخذ وضعا فنيا لا يقف عند حدود فكرة العلاقة الاجتماعية، لأنها استمدت قوتها من الجانب العقلي في ذاكرته”.

وتبين يونس أن “في مسيرة سالم وقراءاته المتعددة والإخلاص الحقيقي لأسطورة المهيرة، هناك محطات الأسود والأبيض وما بينهما من تدرجات رمادية قد تبدو لا نهائية، والتي اعتبرها سالم مرحلة مفصلية في تجربته، فقيامه برسم موضوع ما بالأبيض والأسود يجعله يتعامل مع الشكل على أنه كتلة مجردة من الموضوع، لمصلحة فكرة التعامل مع لونين محايدين وندين متساويين يتنازعان على مساحات من سطح العمل، ولا يمكن لأحدهما أن ينتصر، فوجودهما مترابط تماما، ولا يمكن رؤية النور من دون الظل، وهو ما يجسد الأشكال ويمنحها شكلها النهائي. وفي مراحل أخرى من تجربته عمل سالم على الكولاج بطريقة تعبير مبسطة، وقد نشأ هذا الاتجاه خلال مرحلة استخدامه للأحبار التي تستعمل عادة في المطابع وليست الأحبار الخاصة بطباعة الغرافيك وتختلف عن أحبار المطابع التي يستخدمونها في طباعة الصحف والمجلات”.

 

لوحةلوحةلوحة

 

13