عبدالجليل بوقرة: التاريخ ليس سرد بطولات

المثقفون يخلدون تجاربهم بأعمال مكتوبة ذات صبغة أدبية كالرواية والشعر، أما الناس العاديون فيلجؤون إلى الغناء.
الأربعاء 2020/04/08
ليس التاريخ مجرد سرد لملاحم وانتصارات

يعتبر الدكتور عبدالجليل بوقرة من أبرز المؤرخين التونسيين، ومن أكثرهم حضورا في مجال البحوث والدراسات الأكاديمية حول التاريخ التونسي المعاصر. وكان أول من أصدر بحثا معمّقا عن الحركات اليسارية التونسية في الستينات من القرن الماضي، مثل “أفاق” و”العامل التونسي”. “العرب” كان لها هذا الحوار مع المؤرخ حول مشروعه الجديد “مواقع الذاكرة”.

ينكب المؤرخ عبدالجليل بوقرة مع مجموعة من الباحثين والمؤرخين التونسيين على إعداد كتاب حول “مواقع الذاكرة التونسية” تحت إشراف المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، بالاشتراك مع مركز النشر الجامعي بجامعة منوبة.

  ومن المعلوم أنّ مصطلح “مواقع الذاكرة” مستحدث جديد في العلوم الإنسانية منذ بداية ثمانينات القرن العشرين عن طريق مبتكره المؤرّخ الفرنسي بيار نورا الذي أشرف على إصدار مؤلّف في ثلاثة أجزاء، بين سنتي 1984 و1992، موسوم بـ”مواقع الذاكرة”.

 ويعرّف نورا مصطلح “مواقع الذّاكرة” بأنّه “يشمل في معناه الشامل كلّ الأشياء المادّية والملموسة والمحدّدة جغرافيا، ويشمل أيضا كلّ ما هو مجرّد وما أنتجته الثقافة”، بما يعني أنه يشمل المعالم والشخصيات الهامّة والمتاحف والأرشيف والرّموز والعملة والأحداث والمؤسّسات.

ودخل هذا المصطلح في قاموس “لاروس الكبير”، وأيضا قاموس “روبار الكبير” سنة 1993 الفرنسيين وأصبح شائع الاستعمال.

شخصيات من الذاكرة

 كانت مجموعة من الباحثين، في اختصاصات مختلفة، قد بادرت بالتّعريف بمواقع تونسية، من خلال مؤلف “مواقع الذاكرة”، الذي تضمّن في جزئه الأوّل الصّادر سنة 2018، التّعريف بـ184 موقعا بالبلاد التونسية وتوزّعت بين عشرة مجالات: الأماكن والمعالم والأحداث والكتب والأكلات والجمعيات والمجموعات والشخصيات والأناشيد والرّموز.

عن الجزء الثاني، وهو بصدد الإنجاز، يقول عبدالجليل بوقرة “نحن واصلنا على نفس المنهج، حيث التزمنا بأن تكون “مواقعنا” متعدّدة كتعدّد الذاكرة الجمعية، لم نتقيّد في اختيارها بقيود أيديولوجية أو سياسية حزبية أو جهوية، إذ أننا اخترنا مواقع قدّرنا أنّ نسبة واسعة من التونسيين تتماهى معها، وترى فيها جزءا من ذاكرتها الجماعية البعيدة والقريبة العالقة بتاريخ الوطن وبحياة أهله. وقد تم اختيارنا لـ160 موقعا من الذاكرة التونسية، مع إقرارنا بتعدّد الذّاكرة بقدر التعدّدية الاجتماعية والسياسية والثقافية في تونس، وحاولنا قدر الإمكان، التزام الموضوعية واحترام “الديمقراطية” على مستوى الذاكرة.

أما عن المواقع التي اشتغل عليها يقول بوقرة “كان نصيبي من المواقع عشرين موقعا موزّعة بين معالم وأحداث ومدن ومهرجانات وقصائد شعرية وشخصيات وجمعيّات وأحزاب ومؤسّسات. وسأقوم بالتّعريف بثلاث مدن تونسية كانت عواصم لتونس في فترات تاريخية مختلفة وهي: قرطاج، عاصمة الفينيقيين ثم أفريقية الرّومانية، والقيروان عاصمة الأغالبة في العهد الإسلامي، والمهدية عاصمة الفاطميين قبل تحوّلهم إلى مصر.

لقد ظلّت تلك المدن تتداول دور العاصمة إلى حدود القرن الثالث عشر ميلادي عندما اتّخذ الحفصيون مدينة تونس عاصمة لإمارتهم. أعرّف أيضا بقصر لمطة أو ‘رباط لمطة‘ وهو عبارة عن حصن عسكري في بلدة ساحلية كان التونسيون يستعملونه في العهد الإسلامي للتوقّي من غزوات الرّوم البيزنطيين البحرية، ونجد شبيها لهذا القصر في عدّة مدن ساحلية أخرى كالمنستير وقليبية وجربة”.

ويضيف المؤرخ التونسي قائلا “أثناء التّعريف بهذه المدن والمعالم لم أقتصر على المعلومات الموثّقة فقط، بل نقلت الأساطير الشعبية المرتبطة بتأسيسها، مثل أسطورة جلد الثور أثناء تأسيس قرطاج من طرف الأميرة عليسة القادمة من صور، وأسطورة ‘طرد الأفاعي والسّباع‘ من طرف عقبة بن نافع أثناء تأسيسه للقيروان. كما أعرّف بشخصيّات بقيت في ذاكرة التونسيين ولعبت أدوارا هامّة في مجالات مختلفة”.

بعض الأحداث التاريخية ترسّخت في الذّاكرة التونسية
بعض الأحداث التاريخية ترسّخت في الذّاكرة التونسية

ويتابع “من الشخصيات تناولت مثلا الفنّان رؤول جورنو ذلك المغنّي والملحّن من عائلة يهودية تونسية، والذي انتشرت أغانيه في كل الأوساط التونسية وحقّق شهرة لا مثيل لها في تونس وخارجها، نظرا إلى تخصّصه في أغاني الأعراس والحج والولادة والختان و‘بار متسفا‘ (هو حفل يهودي ديني يقام عند بلوغ الشاب اليهودي 13 سنة من العمر). وكان من أشهر من غنّى ‘التّعليلة‘ التي تقدّم في حفلات الختان بعنوان ‘المطهّر‘ وتعليلة العروس بعنوان ‘لا إله إلا الله‘. ومن أشهر أغانيه التي لا يزال التوانسة يردّدونها ‘يا ديني محلالي فرحو‘ و‘قابلة يا مقبولة‘ و‘مطهّر يا مطهّر‘ و‘مرحبا بأولاد سيدي‘ و‘يا بلادي ما ننساك نتفكرك تهيج ناري‘”.

 يعرّف بوقرة أيضا، بشخصيّة عبدالعزيز العروي أو “بابا عزيز”، ذلك الصّحافي العصامي الذي نافس الزعماء السياسيين شعبيتهم منذ أن أصبح “حكواتيّا” بالإذاعة التونسية، وكان يبدو كأنّه قادم من أزمان غابرة، من أعماق ألف ليلة وليلة، فيكفي أنّ يدق على ناقوسه النحاسي الكبير ويقول “يحكيو على سلطان كان في قديم الزمان…” لتنصت الآذان فإذا بالقصة تعالج قضايا اجتماعية وتسخر من مظاهر انهيار القيم، وتؤسس لتوازن اجتماعي جديد دون أن تفقد طابعها الفني الذي يعتمد الخيال وتوظيف التاريخ البعيد للإنسانية حيث يشتبك الواقع بالأسطورة إلى حدّ يصعب التمييز بينهما. اقتبس “خرافاته” من التّراث العربي الإسلامي، مثل كتابي “ألف ليلة وليلة” و”الأغاني”، كما استفاد من التّراث الإنساني بالعودة إلى قصص ابتكرتها شعوب أخرى، مثل الأساطير الإغريقية، مع إكسائها أجواء تونسية من حيث أسماء الأماكن والأبطال.

  كما قام بوقرة بالتّعريف بالبطل الأولمبي التونسي محمّد القمّودي، القادم من وسط شعبي ريفي لينخرط في الجيش التونسي النّاشئ بعد الاستقلال، ثمّ شارك في سباق للعدو بين الجنود بهدف الحصول على الجائزة وهي رخصة لزيارة أمّه بريف مدينة قفصة بالجنوب الغربي التونسي، لكن يكتشف المشرفون على السّباق في القمودي عدّاء موهوبا قادرا على الذّهاب بعيدا في تلك الرّياضة، وفعلا سرعان ما أصبح بطلا أولمبيّا في أولمبياد طوكيو باليابان سنة 1964، وتتالت بعد ذلك التتويجات في عدّة تظاهرات دولية.

 أما في قسم الشخصيّات، فيعرف المؤرخ بجماعة “تحت السّور”، وهي مجموعة من المثقفين، نذكر منهم الأدباء والصحافيين والمسرحيين والرسامين. وكانت تعقد لقاء يوميا بمقهى “تحت السور” بتونس العاصمة. برزت هذه المجموعة في عشرية مفصلية في تاريخ تونس وفي العالم أيضا، وهي ثلاثينات القرن العشرين، وتحديدا بين سنتي 1929 و1943. وكانت الجماعة رافضة للسّائد التقليدي. كانت عصامية عمل أفرادها على تثقيف أنفسهم والاطلاع على ما وصلت إليه الثقافة والفنون في العالم الغربي من أفكار جديدة وأساليب ومناهج أدبية وفنية متطوّرة وغير معروفة في العالم العربي. وكانت مجموعة “هامشية” و”بوهيمية”، رافضة لثقافة المركز وأخلاقه، بوجهيهما الاستعماري والمحلّي التقليدي المحافظ.

كتابة التاريخ

اهتم ببعض الأحداث التاريخية التي ترسّخت في الذّاكرة التونسية، ملتزما بالمقاييس المعتمدة في اختيار الأحداث بكتاب يعنى بمواقع من الذاكرة، حيث يكون الحدث قصيرا في الزمن، بين لحظة وبعض الأشهر، ولكنّه يبقى محفورا في الذّاكرة لفترة طويلة في الزمن نظرا لتداعياته ولدوره الحاسم في التحوّلات التاريخية.

  ولم يغفل بوقرة عن البحث حول الذّاكرة الجمعية المتصلة ببعض الجمعيّات والمنظّمات، منها ما يخصّ “ذاكرة المثقفين” كمنظمة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ومنها ما تحفظه الذّاكرة الشعبية، مثل الجمعيّات الرّياضية، والتي شكّلت خاصّة أثناء الفترة الاستعمارية أهمّ وسائل الحفاظ على الهويّة التونسية ورفض سياسة الاندماج.

 يحتوي البحث الذي أعده عبدالجليل بوقرة على فصل يخص بعض الأكلات التونسية مثل “البريكة” التونسية. و”البريكة” وجمعها “بريك”، هي أكلة تونسية منتشرة في كلّ الجهات ولدى كلّ الطبقات الاجتماعية، وهي من المفتّحات القارّة في كلّ الموائد التونسية في شهر رمضان. ولئن نجد “البريك” في موائد بعض البلدان المتوسطية مثل الجزائر واليونان وتركيا، فإن البريكة التونسية تختلف بمكوّناتها وبطريقة إعدادها. وتُعتبَر “البريكة” أكلة بربرية أمازيغية. إضافة إلى اعتبار “البريكة” أحد مكوّنات الهويّة التونسية مثل موسيقى المالوف وطبق الكسكسي والفسيفساء.

 وفي النهاية نسأل عبدالجليل بوقرة هل تكتب الشعوب تاريخها من خلال الأكل فقط؟ فيجيبنا “بالطّبع لا، فالشّعوب تكتب تاريخها أيضا من خلال تظاهرات الأفراح ومن خلال الأغاني والأشعار الشعبية، لذلك اهتممت بنمط موسيقي شعبي ويسمّى ‘الزندالي‘، نسبة إلى ‘الزنزانة‘، أي أغاني السجون، فالسجن موقع من ذاكرة كلّ الشعوب، ومنها طبعا الذّاكرة التونسية. وقد أخذت أغاني الزندالي موقعها من خلال ما خلّده السجناء في ذاكرة مجتمعاتهم بأعمال فنّية أصبحت من التّراث الشعبي وعمل الفنانون على استغلالها وتقديمها في أشكال أكثر حرفيّة”.

التاريخ قراءة موضوعية لواقع متحرك في صعود ونزول وفي تقدم وتقهقر، يتضمن الانتصارات كما يتضمن الانتكاسات

ويتابع المؤرخ “لئن خلّد المثقّفون تجاربهم السجنية بأعمال مكتوبة ذات صبغة أدبية كالرّواية والشعر والمذكّرات. فإن باقي المساجين يلجؤون إلى الغناء للتعبير عمّا يشعرون به من ضيق ومظالم وسوء حظ وغدر الأحباب ومن توق إلى الحرّية وملاقاة الأهل والأحبّة ومن حرص على الانتقام ممن يعتقدون أنهم ظلموهم. وقد تكون تلك الأغاني من ابتكارهم أو قد تكون موروثة عن مساجين سابقين، تحمل شحنة مكثّفة من أحاسيس السجين بالقهر وبالحنين، ثمّ تحلّق أغانيهم خارج جدران السجن الباردة وتنتشر في المجتمع وتُردَّد في جلسات الطّرب”.

 ومن روّاد فن الزندالي التونسي يذكر المؤرخ شخصية ڤويدر النيغاوي صاحب أغنية “يا فاطمة بعد النكد والغصّة يدور الفلك ونروّحو للمرسى”، واشتهرت مع الشيخ العفريت، ونذكر أيضا ديدو مسيكة (شقيق الفنانة اليهودية التونسية الشهيرة حبيبة مسيكة).

ويختم عبدالجليل بوقرة حديثه قائلا “ليس التاريخ مجرّد سرد لملاحم وانتصارات، بل هو قراءة موضوعية لواقع متحرّك في صعود ونزول وفي تقدّم وتقهقر، يتضمّن الانتصارات وكلّ ما يبعث على النشوة كما يتضمّن الانتكاسات والخيبات وكل ما يبعث على الإحباط، فهو أحيانا يجرح ولا يستجيب دائما لرغبات المستكشف لأغواره، لذا ابتكرت الشعوب تاريخها ورفعت من شأن مواقعها مع القيام بخلط بين ما هو تاريخي وما هو أسطوري في كثير من الأحيان. ويكشف كتاب ‘مواقع من الذاكرة الوطنية‘ التاريخ الذي ‘كتبه‘ المخيال الشعبي من خلال التعريف بعدد كبير من المواقع بتونس، مع الإقرار، بأنّ مثل هذا العمل لا يمكن أن يقتصر على المؤرّخين بل يفترض مشاركة الأنثروبولوجيين والمختصّين في علم الاجتماع والأدباء”.

15