عباسي مدني مسؤولية دماء الجزائريين تؤرق الإسلاميين أحياء وأمواتا

الإسلاميون قدموا زعيم جبهة الإنقاذ المحظورة في ثوب الزعيم المظلوم، لكنهم لم يتجرأوا على إثارة أبرز مرحلة في تاريخ الرجل وجبهة الإنقاذ والجزائر.
السبت 2019/04/27
زعيم جبهة الإنقاذ الذي قطع رحيله الطريق أمام سرقة الحراك

لعل البعض تحسّر بسبب توقيت وفاة الرجل الأول في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة عباسي مدني، لكون تلك الوفاة تحدث في لحظة انتصار للحراك الشعبي على نظام بوتفليقة وبقاياه. بينما شعر آخرون بالارتياح لغياب رمز من رموز الإسلاميين كان يمكن له أن يساهم في سرقة الحراك من بين أيدي الجزائريين وتوجيهه نحو اتجاه ديني. ولذلك دفع موت مدني بقواعد الحزب الصامتة إلى الواجهة، وسحب خلافات الإسلاميين جانبا من أجل تنظيم مرثية تليق بزعيمهم، واختفى الجميع وراء مشاعر اللحظة، لتجاوز استفهامات لا زالت مطروحة حول مسؤولية مقتل 250 ألف جزائري خلال العشرية الدموية الشهيرة.

شبكات التواصل الاجتماعي كانت أول ساحة استقبلت ارتدادات رحيل مدني، بسبب اختلاف المواقف من الرجل، حول المسؤولية عن دماء عشرات الآلاف من الضحايا الذين قضوا في حرب أهلية بين أجهزة الجيش والجناح العسكري للحزب. ففيما كان يرثي أنصار جبهة الإنقاذ زعيمهم، كان البعض الآخر يستحضر أرواح الضحايا الذين سقطوا آنذاك.

مظلومية الزعيم

المواقف ما تزال متضاربة في الجزائر، بين من يعتبر تدخل العسكر مطلع التسعينات، انقلابا على الإرادة الشعبية، وبين من يصفه بـ“إنقاذ للجمهورية من الانهيار”
المواقف ما تزال متضاربة في الجزائر، بين من يعتبر تدخل العسكر مطلع التسعينات، انقلابا على الإرادة الشعبية، وبين من يصفه بـ"إنقاذ للجمهورية من الانهيار"

بدا من معاينة بسيطة لردود فعل الجزائريين، وكأن العشرية التي مر عليها نحو عقدين من الزمن، هي وليدة الأمس فقط، ويبدو أن التعاطف مع الفقيد، أحيا لدى هؤلاء مشاعر الحزن التي تمزّقهم على فقيد رحل في صمت، بسبب عقيدة جهادية أفرزتها حقبة جبهة الإنقاذ الإسلامية.

قدّم الإسلاميون بمختلف تياراتهم، زعيم جبهة الإنقاذ المحظورة، في ثوب الزعيم المظلوم والبطل المحنّك، وعاد الجميع إلى نضال الرجل خلال ثورة التحرير. لكن لا أحد تجرّأ على إثارة أبرز مرحلة في تاريخ الرجل وجبهة الإنقاذ والجزائر، ربما تعاطفا مع زعيمهم الروحي، أو احتراما لمشاعر جزائريين آخرين.

وفيما ذهب البعض، إلى أن الوقت غير مناسب لإثارة ملف العشرية الحمراء في هذا الظرف بالذات، الذي يتنفس نسائم الحرية مع حراك شعبي تصنعه أجيال جديدة، تجاوزت اصطفافات مؤسسة الجيش أو الإسلاميين، فإن هناك من علق بالقول “إن الرجل لحق بأولئك الذين رحلوا قبل عشرين عاما، بسبب حرب كان أحد مشعليها”. وكتب الوزير السابق والقيادي في حزب طلائع الحريات المعارض محمد علالو يقول “أنا حرّ وأتكلم في صفحتي وهي ملك لي، وما قلته في الشيخ عباسي مدني رحمه الله، رأي شخصي وأنا أدري أنه يخالف آراء العديد من أصدقاء الفيسبوك”، في إشارة إلى من استنكروا عليه تحميله مسؤولية ما حدث خلال العشرية الدموية.

وأضاف علالو “أنا من الأخضرية (بلدة جنوب العاصمة كانت أحد معاقل الجماعات الجهادية)، ولم أغادر بلدي ولا بلدتي. عشت الإرهاب وأعرفه”، وهو تلميح إلى الهمجية التي عاشتها البلاد تحت يافطة الجهاد والدفاع عن الحقوق السياسية، ومعارضة السلطة بالعمل المسلح، لافتا إلى أن الجهاد أثناء ثورة التحرير لا يشفع لأصحابه كل شيء، فكذلك كان الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، مجاهدا أيضا، لكن ها هي الجزائر على ما هي عليه، وكذلك فرحات مهني ابن شهيد، لكن ها هو الرجل يقود حركة انفصالية تهدد وحدة البلاد التي ضحّى والده من أجلها. وإن كان الزعيم الثاني في جبهة الإنقاذ المنحلة علي بلحاج، قد ظهر أكثر نضجا ورزانة منذ خروجه من سجن البليدة العام 2002، وبات خطابه الإسلامي أكثر ليونة وقابلية للتعايش مع من يخالفونه الرأي والتصور، بعدما كان يحرّم الديمقراطية ويرفض أي تداول على السلطة بعد فوز حزبه في انتخابات 1991، فإن الرجل الأول في الحزب تلافى الخوض منذ خروجه من البلاد العام 2003، إلى غاية رحيله، في شؤون المرحلة الدموية، رغم ما تحتاجه من أضواء لمعرفة الحقيقة.

الحليف والغريم الإخواني عبدالرزاق مقري، قال عن رحيل مدني “كانت لي مناسبات قليلة التقيته فيها بالخارج، والغريب في الأمر أنني حينما كنت ألقاه خارج الديار لا نتحدث إلا عن سنوات الثمانينات الجميلة، يذكّرني وأذكره ببعض حكاياتها، ولا يُحرج أي منا الآخر بالحديث عن أحداث التسعينات الأليمة”.

وأضاف “هنا أقول شتان بين الحديث النافع والعقلاني مع القيادات التاريخية، سواء عباسي أو بلحاج أو جدي أو بوخمخم أو قمازي، وبين الحديث الحاقد المؤجج للصراعات، والملهي عن الأهداف السامية الذي يطلقه بعض من يتكلم باسم الجبهة إلى اليوم، وأغلبهم لا نعرف من هم ولا من الذي جاء بهم أو من يحرّكهم”.

وتلمح تدوينة الرجل إلى أن الجيل القديم من القيادات الإسلامية، يمسك بقنبلة يخشى أن يكون أول ضحاياها إذا انفجرت، لذلك لا زالت مرحلة العشرية الحمراء بالنسبة له مجرد محطة تتلاشى من الذاكرة بمجرد تجاهلها في الأحاديث الهامشية والحميمية، وليست حربا أهلية أزهقت فيها روح 250 ألف ضحية، وسالت وديان من الدماء في الجزائر.

في مجتمع يفتقد لثقافة الاعتراف وتحمّل المسؤوليات، يجد الإسلاميون فيه ما يلتحفون به لمنع انسلال أضواء الحقيقة، ويعملون على ترحيلها إلى زمن غير زمانهم، فرغم مرور نحو عقدين من الزمن على المأساة الدموية، لم يجرؤ أي منهم على الإدلاء بشهادته في الأحداث، وعلى رأسهم مدني، الذي توارى عن الأنظار والأضواء منذ مغادرته للبلاد، إلى منفى اختياري في دولة قطر.

هوس السلطة

إذا كان الوحيد الذي عبّر عن استعداده للمحاكمة داخل الوطن أو خارجه، شرط توفر “النزاهة والشفافية”، هو بلحاج، فإن رموز وشتات الحزب في الداخل والخارج لا زالت تلتزم الصمت، وتتفادى التصريح بما حدث خلال المرحلة الدموية ومن أسس لعقيدة الجهاد والمعارضة المسلحة، واختفى الجميع وراء الماضي الثوري لمدني، كونه من الرعيل الأول الذي فجر ثورة التحرير ضد الفرنسيين، لكن بمجرد إثارة مرحلة العشرية الدموية، ينتفض الجميع بدعوى احترام المشاعر.

وكما تسرّب عن وزير الدفاع السابق خالد نزار، استعداد قيادة الجيش إلى التضحية بأربعة ملايين جزائري، أي الوعاء الانتخابي لجبهة الإنقاذ، من أجل بقاء السلطة، والإفادة التي قدمها الجنرال المتقاعد بن حديد، حول تنظيم ورعاية جهاز الاستخبارات لمجموعات دموية بأسماء إسلامية، لتنفيذ عمليات مرعبة ومجازر جماعية لتشويه صورة الإسلاميين لدى الشارع الجزائري، فإن إفادات أخرى تؤكد بأن مناضلين ومتعاطفين مع جبهة الإنقاذ، هم الذين حملوا السلاح وارتكبوا أعمالا شنيعة في حق المدنيين والأعوان البسطاء للدولة، وأن عقيدة قادة الإنقاذ المسجونين حينها في سجن البليدة، كانت تمثل مرجعية سياسية وعقيدة جهادية، لاسترجاع حق أخذ منهم بالقوة، وكان الخماسي قمازي، بوخمخم، جدي، بلحاج، وعباسي مدني، يمثلون رموزا ومصادر إلهام لهم.

الدوامة الإخوانية

في مجتمع يفتقد لثقافة الاعتراف وتحمّل المسؤوليات، يجد الإسلاميون فيه ما يلتحفون به لمنع انسلال أضواء الحقيقة
في مجتمع يفتقد لثقافة الاعتراف وتحمّل المسؤوليات، يجد الإسلاميون فيه ما يلتحفون به لمنع انسلال أضواء الحقيقة

تذكر الوقائع أن تنظيم الجيش الإسلامي للإنقاذ، بقيادة مدني مزراق، كان يمثل الذراع المسلحة للجبهة، إلى غاية دخوله في مفاوضات سرية مع قيادة جهاز الاستخبارات في منتصف التسعينات، لترتيب ما عرف بـ”اتفاق الهدنة”، الذي أفضى إلى عودة نحو ثمانية آلاف عنصر جهادي، مقابل إجراءات عفو وامتيازات.

لقد ارتكبت جبهة الإنقاذ وعلى رأسها زعيمها الراحل، أكبر خطيئة في مسارها، وهو خيار اللجوء إلى العنف والتمرد، دون تقدير العواقب، ولم تدرك حينها أن العنف هو اللعبة المفضّلة لصقور الجيش، خاصة وأنها لم تكن تملك حتى القدرة على حماية نفسها من الاختراق الخارجي، وسيسجل التاريخ للرجل ولرفاقه بأنه لم يصدر عنهم أي موقف لحماية الجزائريين من العنف الدموي، وأن مصلحة الحزب ظلت هدفهم الأول والأخير على حساب شعبهم.

ويبدو أن القادة السياسيين لجبهة الإنقاذ، وفي مقدمتهم مدني، الذين لم يصدر عنهم أي موقف مندد بالإرهاب ويدعو إلى وقف حمام الدم، قد تجاوزتهم التطورات، بدليل أن اتفاق الهدنة المذكور، لم يتضمن أي ترتيبات تتعلق بالقادة المسجونين، واكتفى بمعالجة العناصر الميدانية، ليكون بذلك الطلاق بين السياسي والعسكري في جبهة الإنقاذ، إلا أنه لا مدني ولا أي من القادة تبرّأ من التنظيم.

وتبقى أطراف اللعبة معروفة لدى الجميع، ففي لحظات انكفاء صوت العقل والحكمة، قفز الصقور إلى الواجهة، وجنون العظمة والنرجسية الزائدة التي كانت تهيمن على شخصية مدني، قابلتها مخاوف ومقاومة في المعسكر الآخر. ورغم معايشة الرجل لزمن “الحكماء”، كعبدالحميد مهري، أمين عام جبهة التحرير الوطني آنذاك، وحسين آيت أحمد، رئيس جبهة القوى الاشتراكية، وسليمان عميرات، رئيس الحركة الديمقراطية، إلا أن طموحات الاستحواذ على السلطة كانت فوق تحذيرات هؤلاء من العجلة، ومن التعاطي غير الذكي مع رموز السلطة وفي مقدمتها مؤسسة الجيش.

ويذكر الجميع كيف حذّر الراحل عبدالحميد مهري، من إشكالية “احتماء الديمقراطية بالدبابة، وارتياح الناس لتواجدها في الشارع”، ودون أن يجهر بالسبب الرئيسي، ألمح إلى أخطاء الخطاب التهويلي والتفرد بالسلطة وممارسة الحكم باسم الدين، الذي خلق حالة من الذعر وأطلق دعوة لاستحضار الحماية من مؤسسة تسلّطية، بدل الاستنجاد بالديمقراطية كآلية للتبادل على السلطة.

ويرى المعارض السياسي جمال بن عبدالسلام، المنحدر من تيار الإسلام السياسي “حركة النهضة”، أن “زعيم جبهة الإنقاذ، فاتته فرصة فهم التوازنات وآليات التحول، وافتقد للقدرة على التعاطي البراغماتي مع قوى السلطة الفاعلة آنذاك”، وهو ما سرّع من وتيرة الانحراف نحو العنف والعنف المضاد، فالرهان على الشارع كوسيلة للتغيير، لم يكن كافيا لاحتواء بؤر المقاومة داخل السلطة، نتيجة حداثة التجربة وصدمة الانتقال السياسي السريع.

إيران وراء الباب

القادة السياسيون لجبهة الإنقاذ لم يصدر عنهم، حتى اللحظة، أي موقف مندّد بالإرهاب، ما يعني التزامهم بنهج ثابت (صورة تجمع مدني بخامنئي)
في مجتمع يفتقد لثقافة الاعتراف وتحمّل المسؤوليات، يجد الإسلاميون فيه ما يلتحفون به لمنع انسلال أضواء الحقيقة

إذ يحسب لمدني أنه استطاع بقيادته لجبهة الإنقاذ، تحقيق التوازن بين تياراتها وأجنحتها، كالجزأرة، الإخوان، والدعويين وغيرهم، إلا أنه وجد نفسه رهين تيار شعبوي جارف، ومحيط متزمت، بينما انكفأت النخبة إلى الصفوف الخلفية، وهو ما كلفه تمرّدات داخلية في صورة الأب الروحي للتيار الإسلامي في الجزائر أحمد سحنون، الذي سحب دعمه المطلق له، خلال السنوات الأولى، وجماعة بشير فقيه وغيرهم.

وتبقى المواقف متضاربة في الجزائر ولدى المهتمين بالمرحلة، بين من يعتبر تدخل العسكر لإلغاء المسار الانتخابي في مطلع 1992، انقلابا على الإرادة الشعبية ودفْعا بالبلاد إلى مستنقع الدم، وبين من يصفه بـ”إنقاذ للجمهورية من الانهيار”، بعدما اتضحت نوايا قادة الإنقاذ بجعل الجزائر، أفغانستان ثانية في المنطقة.

وهكذا لم يكن غريبا أن تحتضن قطر مدني خلال السنوات الطويلة الماضية، وأن يصلّي أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في جنازته، فمدني لم يخرج يوما، حتى آخر لحظة في حياته، عن مدار تفكير الإخوان الذي يتقاطع مع الإيرانيين كما يتقاطع حركة حماس وغيرها، فقد قال يوما في مجلة السنة في عددها 11 في الصفحة 57 الصادر في العام 1991 “إن المصباح الذي أضاءه الإمام الخميني نوّر قلوبنا جميعا، وإننا نعتقد أن الثورة الإيرانية ستنقذ الأمة الإسلامية، بل البشرية جمعاء، إن الشعب الجزائري على أهبة الاستعداد للوقوف بجانبكم صفا واحدا لرفع راية الله أكبر في العالم”.

ومن يدري لو عاش عباسي مدني لأعادوه إلى الجزائر كما عاد القرضاوي إلى ميدان التحرير من الدوحة، مذكرا بعودة الخميني إلى طهران في السبعينات.

12