عالم يحكمه ستروبري

يأتي يوم على البشر تكون فيه الآلة قادرة على التفكير، ونكون قادرين فيه على التحدث معها، تمامًا مثلما نتحدث مع بعضنا. هذه النبوءة لم يقلها خبير إثر ظهور روبوت المحادثة تشات جي بي تي الذي أطلقته أوبن إيه آي، بل جاءت في ورقة بحثية شهيرة بعنوان “الآلات الحاسوبية والذكاء”، نشرها ألان تورنغ المعروف بأب علم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، عام 1950، أي قبل أن يصبح الحديث عن الذكاء الاصطناعي متداولًا على ألسنة الجميع بـ75 عامًا.
قصة تورنغ تعود إلى عام 1939، عندما انضم إلى فريق فك الشفرات البريطاني في بلتشلي بارك. كانت مهمة الفريق الرئيسة فك شفرة الاتصالات العسكرية الألمانية المكتوبة باستخدام آلة أنيجما. طور تورنغ من أجل هذا الغرض آلة حوسبة تُدعى “بومب” (Bombe)، كانت قادرة على اختبار آلاف الاحتمالات بسرعة كبيرة. بفضل عمل تورنغ والفريق، تمكن الحلفاء من فك الرسائل العسكرية المشفرة التي يتبادلها الألمان والاطلاع على محتواها، مما أعطاهم ميزة إستراتيجية كبيرة في الحرب. هذا الإنجاز ساهم بشكل كبير في انتصار الحلفاء. عدد الأرواح التي تم إنقاذها بفضل تورنغ يصل إلى 21 مليون شخص.
لا بد أن القائمين على مشروع ستروبري أرادوا تذكيرنا بفضل ألان تورنغ على البشرية، الذي رغم تكريمه على عمله بعد الحرب، واجه تحديات شخصية بسبب قوانين تلك الفترة المتعلقة بالمثلية الجنسية، وأنهى حياته منتحرًا بقضمة تفاحة مسمومة، أصبحت فيما بعد الرمز الشهير لشركة آبل.
التفاتة ذكية من الشركة التي أطلقت أول روبوت محادثة، وتخطط بعد فترة من التردد لإطلاق نظام ذكاء اصطناعي جديد أطلقت عليه اسم ستروبري، تم تصميمه ليس فقط لتقديم إجابات سريعة على الأسئلة، ولكن أيضًا للتفكير والاستدلال. قدرة ستروبري على الاستدلال تعني أن هذه النماذج يمكنها تحليل المعلومات واستنتاج النتائج بناءً على البيانات المتاحة. بعبارة أخرى، يمكنها التفكير بشكل منطقي لحل المشكلات، اتخاذ القرارات، وفهم العلاقات بين المفاهيم المختلفة.
على سبيل المثال، إذا طُلب من ستروبري حل مسألة رياضية معقدة، فإنه يستخدم قدرته على الاستدلال لتحليل المعطيات، وتطبيق القواعد الرياضية المناسبة، والوصول إلى الحل الصحيح. هذه القدرة تجعل نماذج المستقبل من الذكاء الاصطناعي أكثر فعالية في التعامل مع المهام التي تتطلب تفكيرًا عميقًا وتحليلًا دقيقًا. قد تبدو القدرة الظاهرة على الاستدلال مفاجأة للبعض، حيث يُعتبر هذا عمومًا مقدمة
للحكم واتخاذ القرار – وهو ما بدا هدفًا بعيد المنال للذكاء الاصطناعي. لذلك، على الأقل ظاهريًا، يبدو أننا على أبواب نقلة تقرب الذكاء الاصطناعي إلى الذكاء البشري.
بلغة أخرى، ستروبري نظام قادر على أن يغش ويخدع البشر، تمامًا كما توقع تورنغ عندما اقترح اختبارًا لتحديد ما إذا كانت الآلة قادرة على التفكير مثل الإنسان؛ إذا لم يتمكن الشخص من التمييز بين ردود الآلة والإنسان في محادثة، فإن الآلة تُعتبر ذكية.
التأكيدات التي أطلقتها الشركة المطورة للنظام لم تستطع تهدئة المخاوف. ماذا سيحدث في حال تم توظيف مثل هذا النظام من أصحاب النوايا السيئة، من محتالين وقراصنة؟ هل من الحكمة أن نثق بتطمينات أوبن إيه آي، لنصحوَ يومًا على عالم يحكمه ستروبري وأشباهه؟