عالم الآثار عكاشة الدالي: حان الوقت لإنشاء صندوق لرعاية التراث العربي

علم الآثار نشأ في حضن الحضارة الإسلامية.
الخميس 2022/12/08
يجب توحيد الجهود العربية لرعاية تراثنا

يتهم الكثيرون عن جهل العرب بأنهم كانوا على علاقة عداء مع آثار الحضارات السابقة، ويستشهدون بما قامت به فئات إسلامية متطرفة من تدمير للآثار، بينما هذا يقدم صورة مغلوطة تماما، كما يوضح الباحث المصري عكاشة الدالي في حواره مع “العرب”.

تساؤلات كثيرة تثار حول الآثار المصرية سواء منها ما انتمى إلى العصر الفرعوني أو القبطي أو الإسلامي، والبدايات الأولى للاهتمام بها، وحقيقة الاتهامات التي وجهت إلى الحضارة الإسلامية بأنها لم تحترم الآثار في الدول التي حكمتها بل سعت إلى طمسها وربما هدمها، وأيضا حقيقة وجود دور لعلماء مسلمين في استكشاف الهيروغليفية، وصولا إلى السرقات التي تمت وتتم، والوضع الراهن لعمليات التنقيب والترميم.

هذه التساؤلات وغيرها كانت محور الحوار مع عالم الآثار عكاشة الدالي، الحاصل على درجة الدكتوراه في عام 2003 من معهد الآثار بجامعة لندن في الآثار والتراث الثقافي بأطروحة رائدة ركزت على تاريخ علم الآثار في الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى بحثًا عن جذور علم المصريات بين العلماء العرب الذين اهتموا بدراسة الثقافة والبيئة المصرية، مما أدى إلى محاولاتهم استكشافهم الهيروغليفية والكشف عن أسرارها وذلك بفترة طويلة قبل العالم الفرنسي الشهير شامبليون.

بداية يرى الدالي أن الاهتمام الأوروبي بالآثار المصرية بدأ مبكرا منذ انبهار اليونان والرومان بحضارة مصر القديمة، وولعهم بالديانة المصرية القديمة وتعاليم أربابها مثل إيزيس وتحوت / هرمس والذي أدى إلى نقل الرومان للكثير من الآثار المصرية وخاصة المسلات لتزيين روما، لكن الدراسة المنظمة للآثار المصرية بدأت مع اكتشاف شامبليون سنة 1822 قراءة اللغة المصرية القديمة من خلال حجر رشيد موجود حاليا بالمتحف البريطاني، والذي احتفل منذ عدة أيام بمرور 200 سنة على نجاح شامبليون هذا، وقد دعي الدالي لإلقاء محاضرة بالمتحف البريطاني بهذه المناسبة.

وحول أطروحته للدكتوراه التي حصل عليها من معهد الآثار بجامعة لندن على تاريخ علم الآثار المصرية في الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، يوضح الدالي “من المعتاد تدريس علم المصريات على أنه علم أوروبي النشأة ولا توجد إشارة للأسف في مراجع علم الآثار المصرية المتداولة لدى طلاب هذا العلم إلى أي مساهمات مصرية أو عربية في هذا العلم، لكن بعد عدة سنوات من التنقيب في كنوز المخطوطات الإسلامية العربية أمكننا من التعرف على جوانب شتى تبين ولع العلماء العرب في العصر الوسيط بدراسة الحضارات القديمة، وخاصة الحضارة المصرية القديمة، والتي كانوا يعتبرونها مهد العلوم والسحر والرقي المعرفي”.

الآثاريون العرب

اتهام الحضارة الإسلامية بأنها لم تحترم الآثار في الدول التي حكمتها وسعت لطمسها وهدمها تهمة ظالمة
اتهام الحضارة الإسلامية بأنها لم تحترم الآثار في الدول التي حكمتها وسعت لطمسها وهدمها تهمة ظالمة

ويضيف “لقد حث القرآن الكريم المسلمين على السير في الأرض وتأمل مصائر الحضارات السابقة ليعتبروا منها، واستلهم العلماء هذا التوجيه القرآني ضمن دوافع أخرى وكرسوا العديد من الدراسات الرصينة لدراسة آثار مصر وشعبها وأرضها. ونجد علماء ومؤرخين مثل المسعودي والبيروني وابن أميل وابن وحشية وعبداللطيف البغدادي ومحمد بن عبدالعزيز الإدريسي وأبوالقاسم العراقي والمقريزي وغيرهم يكرسون الوقت والجهد لاستكشاف كنوز الحضارة المصرية القديمة. والإدريسي خاصة ترك لنا عدة مؤلفات رصينة عن تاريخ مصر القديمة وآثارها منها كتاب ‘الجوهرة اليتيمة في أخبار مصر القديمة‘، وكتاب أنوار علوي ‘الأجرام في الكشف عن أسرار الأهرام‘، وهذا الكتاب يعد من أهم الدراسات العلمية وأقدمها على الإطلاق عن الأهرامات المصرية وأول من ربط بين مواقعها ومواقع النجوم كما يتبين من عنوانه”.

وإذا كان العلماء العرب في العصور الوسطى استكشفوا الهيروغليفية، وحاولوا الكشف عن أسرارها لماذا توقفوا؟ إذ لم نعرف شيئا عنها حتى مجيء شامبليون، يقول الدالي “هي نفس مشكلة عدم اهتمامنا بالمخطوطات الإسلامية، وبالتأكيد في حالة علماء الآثار المصرية، فنادرا ما يهتم أحدهم بالمخطوطات العربية لأسباب عدة من بينها عدم المعرفة بالعربية ومنها كثرة النصوص المصرية القديمة التي بحاجة إلى الدراسة فليس لديهم فائض من الوقت للاهتمام بغيرها..إلخ”.

ويتابع “هذه المخطوطات متناثرة دون ترتيب أو فهرسة حول العالم إلا فيما ندر، وقد كان لمؤسسة الفرقان في لندن فضل الريادة في محاولة علاج هذه المشكلة بوضع فهارس شاملة لمجموعات المخطوطات الإسلامية والعربية حول العالم. وطبعا هناك مشكلة أعمق وهي أن كل دارسي الآثار في العالم يتربون على المدرسة الأوربية التي فرضت علينا المركزية الأوروبية في العلوم، حتى أن العلماء العرب يضطرون غالبا حتى الآن إلى نشر بحوثهم بلغات أوروبية، لأن العربية ليست للأسف من لغات علم الآثار المصرية. وهي فجوة ينبغي العمل على سدها بشتى السبل”.

يؤكد الدالي أن اتهام الحضارة الإسلامية بأنها لم تحترم الآثار في الدول التي حكمتها بل سعت إلى طمسها وربما هدمها تهمة ظالمة، يقول “لقد فتح المسلمون مصر ولم يعرف عنهم تدمير آثارها بل نجد الكثير من الإشارات إلى زيارة الصحابة أنفسهم لمواقع الآثار مثل الأهرامات، كما أن عمليات التخريب الحالية التي تقوم بها الجماعات المتطرفة لا علاقة لها بالتعاليم الإسلامية. أما شيوع إعادة استخدام حجارة المباني القديمة المتهدمة فنجده في الآثار المسيحية والإسلامية اللاحقة، والطريف أنه حتى في مصر القديمة كان من الشائع إعادة استخدام بعض أحجار المباني القديمة في البناء إما للاعتقاد في قداستها وإما لأسباب عملية، فقد وجدنا أحجارا من مباني ومقابر منطقة أهرامات الجيزة من عهد المملكة القديمة، وقد أعيد استخدامها خلال تشييد مبان من عهد المملكة الوسطى، أي بعد عدة قرون ونفس الشيء تكرر خلال عهد المملكة الحديثة كما ترى في معابد الكرنك بالأقصر مثلا“.

◙ عمل العلماء العرب في العصر الوسيط على دراسة الحضارات القديمة، وخاصة المصرية، التي كانوا يعتبرونها مهد العلوم

ويقول الدالي “بعد بحوثي التي استغرقت أكثر من ربع قرن يمكنني القطع بأن نشأة علم الآثار كعلم وقعت في حضن الحضارة الإسلامية، ويمكننا الآن ضمه إلى ثلة العلوم التي اشتهرت بها الحضارة الإسلامية كالطب والفلك والميكانيكا والكيماء. لكن للأسف مع تدهور حالة العلم والعلماء تراجع الحماس لدراسة الآثار المصرية حتى مجيء الحملة الفرنسية وكشف شامبليون. والواقع أن هناك علماء أجلاء في بدايات دراسة المصريات في العصر الحديث ممن حرصوا على ربط علم المصريات بجذوره العربية كأحمد كمال باشا الذي أنجز منفردا أقدم قاموس علمي واسع المدى للغة المصرية القديمة، لكن جرى للأسف تجاهله من رؤسائه الأجانب الذين كانوا يسيطرون على إدارة الآثار المصرية، وهو الوضع المزري الذي استمر حتى قيام ثورة يوليو 1952“.

أما تدريس علوم الآثار المصرية خارج مصر في الدول العربية فيتم، كما يقول، بدرجات متفاوتة ومن المعروف مثلا أن مناطق الجزيرة العربية وليبيا والسودان كانت على علاقة وثيقة بمصر طيلة التاريخ وبالتالي من الطبيعي أن يكون لديها حاليا اهتمام بتدريس علم المصريات.

يرى الدالي أن دول الخليج تشهد نهضة حقيقية للبحث عن تراثها العريق وتستقدم لهذا الغرض العلماء من شتى البقاع، وإن كانت للأسف هناك مشكلة الاعتماد على الأثريين الغربيين في الكثير من هذه البلدان مع أن الأولى هو الاستعانة بخبرات كبيرة تذخر بها البلدان العربية الأخرى التي لها باع أقدم في دراسة الآثار مثل مصر والجزائر والمغرب وتونس…إلخ.

ويضيف "لقد رافقت هذه النهضة في البحوث الأثرية التوسع في إنشاء المتاحف الوطنية بل وأحيانا الاستعانة بأسماء متاحف غربية رنانة، وإن كنت شخصيا غير متحمس لهذه الشراكات، فالأولى إنشاء آلية للتعاون العربي بحيث يمكن تبادل إعارة وعرض الآثار بين بلادنا العربية خليجية وغير خليجية، وقد سبق لي طرح مشروع منذ أكثر من عقدين من الزمن باسم صندوق التراث العربي تتعاون من خلاله الدول العربية في الكشف عن الآثار ودراستها وإنشاء متاحف جديرة بهذا التراث العريق بتبادل الخبرات العلمية والتمويل. يعني باختصار يكون ‘زيتنا في دقيقنا‘ كما يقول المثل العربي”.

توحيد الجهود

عكاشة الدالي: من الخطأ تدريس علم المصريات على أنه أوروبي النشأة
عكاشة الدالي: من الخطأ تدريس علم المصريات على أنه أوروبي النشأة

ويأسف الدالي  لما جرى ويجري للآثار العربية  في اليمن والعراق وليبيا وسوريا وفلسطين مؤكدا أن الكثير من الدول تفقد من تراثها خلال الحروب والنزاعات المسلحة والصراعات العرقية، ودولنا العربية كافة ليست بمنأى عن هذه الكارثة. ورغم وجود اتفاقيات دولية برعاية اليونيسكو لحماية التراث أثناء الحروب. وكما رأينا في حالة التخريب الذي طال مواقع أثرية مهمة في سوريا والعراق وليبيا واليمن وفلسطين بل وحتى مصر خلال فترة الربيع العربي، فإن الجهود التالية للحفاظ على ما بقي من هذه المواقع لم تكن على قدر الاحتياجات بسبب ضعف التمويل وقلة الخبرات والانشغال بأمور أخرى إلخ.. ويحمد لبعض الجهات الأجنبية مثل اليونيسكو والمتحف البريطاني تقديم المساعدات العاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ويقول "ألاحظ دوما أن أكثر قاعات المتاحف ازدحاما هي قاعات عرض الآثار المصرية تحديدا، وهو ما يملأ قلب أي مصري وعربي بالفخر، لكني كباحث في الآثار أشعر بغصة لأن هذه الآثار خرجت من كافة بلادنا بطرق غير شرعية في أغلب الأحوال ولا سبيل لاستردادها إلا بشق الأنفس. وفي المقابل يعرف كل دارس للآثار العربية حجم ما ندين به لعلماء هذه المتاحف الأجنبية في دراسة ونشر البحوث حول تراثنا والتي لا تزال المصدر الرئيسي في الكثير من الأحوال للطلاب العرب أنفسهم لدراسة تراثهم.

ويشير إلى أن الكثير من بلداننا العربية قطعت شوطا كبيرا في حماية التراث واستغلاله سياحيا رغم كثرة المعوقات وعلى رأسها مصر والأردن ولبنان وتونس مثلا، إلا أن هناك بعض بلداننا لم تفكر حتى في الكشف عن آثارها إلا مؤخرا مثل السعودية، وهناك دول لديها تراث عريق يستحق زيارة السياح مثل السودان، لكن لأسباب معروفة هناك عوائق كثيرة.

ويؤكد أن خطورة الأوضاع الأمنية لأي سبب كان تؤثر سلبا على عمليات البحث والتنقيب عن الآثار ووجود البعثات الأثرية سواء المحلية أو الأجنبية، فالأصل أن عمل هذه البعثات ينبغي أن يتم في بيئة آمنة تضمن السلامة الشخصية للأفراد والمعدات والآثار المكتشفة والمواقع الأثرية. وقد شهدنا جميعا خطورة وجود الجماعات المتطرفة وأحيانا جيوش الغزو الأجنبي كما حدث في العراق على العمل الأثري.

ويختم الدالي بالإشارة إلى مشروعه الذي طالما نادى به منذ عقدين من الزمن والذي ضمنه مقترح إنشاء صندوق لرعاية التراث العربي، مؤكدا أنه قد حان الوقت الآن لتوحيد الجهود العربية لرعاية تراثنا ووضعها تحت مظلة عربية باسم “الصندوق العربي لرعاية التراث” والإفادة من الخبرات العلمية والميدانية الكثيرة المتوافرة الآن في كافة أرجاء العالم العربي، حيث توجد لدينا العناصر البشرية المدربة ومن بينها أعضاء في المؤسسات الدولية المعنية بصيانة التراث مثل الأيكوم والأيكوموس والأيكروم والأيوسين وغيرها ويمكن تلخيص الفكرة في التعبير الشعبي الدارج أن يكون “زيتنا في دقيقنا” مع استمرارية التعاون مع الزملاء والزميلات من كافة المراكز العلمية الأجنبية التي تعمل منذ عقود في دراسة وصيانة تراثنا. وتعد مكتبة الإسكندرية لمكانتها المرموقة المهد الطبيعي لمولد هذه المبادرة المباركة.

13