"عابر الجدران" قصص فرنسية تعالج قضايا اجتماعية خالدة

يعتبر النقاد قصص مجموعة “عابر الجدران” للكاتب الفرنسي مارسيل إيميه أهم مجموعة قصصية فرنسية ظهرت في القرن العشرين، مؤكدين أن القصة القصيرة الفرنسية لم تحقق نجاحا بعد موباسان سوى في مجموعتين قصصيتين “خطابات طاحونتي” لألفونس دوديه، و”عابر الجدران” لمارسيل إيميه أحد أعظم رواد الواقعية السحرية.
“عابر الجدران” مجموعة قصصية للكاتب الفرنسي مارسيل إيميه ترجمها وقدم لها الكاتب والمترجم أشرف حسن وصدرت عن المجموعة الدولية ـ بورصة الكتب، هو اسم القصة الأولى في المجموعة، بطلها دوتيليل صار شخصية لا تنفصل عن المؤلف نفسه، ففي حي مونمارتر - الدائرة الثامنة عشرة - سيصادفك تمثال غريب لنصف رجل، هو استلهام لفكرة قصة عابر الجدران التي ظل بطلها حبيس الحائط، ولكن بدلا من وجه دوتيلول ستجد وجه مارسيل إيميه، في ميدان يحمل اسمه.
التمثال من صنع الفنان جان بول أعز أصدقاء إيميه، وورد ذكره أكثر من مرة في المجموعة. لقد تحولت القصة نفسها مرات ومرات إلى أفلام سينمائية وتلفزيونية، ثم إلى مسرحية غنائية، وكان آخر الأفلام فيلما بنفس الاسم “عابر الجدران” عرض عام 2016.
الواقعية والغرائبية
يرى أشرف حسن في مقدمته أن قصص هذه المجموعة - باستثناء قصة “المثل” - التي تصنف على أنها تنتمي إلى الواقعية السحرية، تعد من الوثائق الاجتماعية الشاهدة على فترة الأربعينات وسقوط باريس تحت الاحتلال النازي. والمجموعة تسودها الروح السيريالية مع نزعة كافكاوية أحيانا، والكثير من الطرافة والمقدمات العجائبية التي تنتهي ـ بغرابة شديدة - بنهايات منطقية. ورغم المسحة الكابوسية والسيريالية والغرائبية تظل الشخصيات في هذه المجموعة بآمالها ومخاوفها حقيقية للغاية. لكن لا غرابة في ذلك، فبراعة إيميه هي التنقل السلس بين العادي والمدهش، بين الواقعي وما وراء الواقعي، ألم يقل كوكتو “إنك تدخل العالم الغرائبي لمارسيل إيميه كما تدخل أحد المقاهي”.
ويلفت إلى أنه “مع إيميه، تصبح الواقعية السحرية بعدا آخر للواقع، فغالبا ما نشهد امتلاك الأبطال لقدرات غريبة أو لموهبة استثنائية تسمح لهم بالانتقام من مجتمعهم. الجميل أن إيميه عندما يأخذنا إلى عالمه الخيالي، لا ينسى، مخاوفه كرجل يواجه مجتمعا يثير الإحباط. لذا تحتوي قصصه على انتقادات قوية لأفكار مثل فكرة الحرب والعدالة الاجتماعية، فعالمه الفانتازي يسمح له بالانتقام من السلطة بكل أشكالها ليعيش الحرية التي يطمح إليها. لذلك لا يجب أبدا أن نقارن بين الواقعية والغرائبية في أعمال مارسيل إيميه، لأنهما ببساطة لا ينفصلان، فهو يبدأ بالواقع، ثم يحوله إلى فانتازيا، لتخرج منها واقعية جديدة دون أن يعرف أحد كيف”.
إن القصص العشر تثير الدهشة والمفاجأة. قصص تتسم بطابع شديد المحلية، وذات نكهة فريدة خاصة. تكمن براعة مارسيل إيميه في أنه في بضع جمل، يعرف كيف يجعلك تستحضر علاقات الجيران، ومشاكل العمل، ومآسي الحياة اليومية، وقوانين الدولة، وأعراف وأخلاق كل منطقة، أو مجموعة اجتماعية يتحدث عنها. يقدم لنا إيميه في كل قصة دراسة اجتماعية بمفردات دقيقة لكل نوع بشري. متوسلا بلغة غنية، مكتنزة الدلالات، ومختلفة، ومتباينة، تتلون باختلاف الشخصيات، ولها أكثر من مستوى: فيجمع بين العامية، واللهجات المحلية، بل والكلمات الإنجليزية التي يفرنسها.
المجموعة تسودها الروح السيريالية مع نزعة كافكاوية، والكثير من الطرافة والمقدمات العجائبية بنهايات منطقية
ويوضح حسن أن قصص إيميه تعالج القضايا الاجتماعية الخالدة، وتقدم شخصيات ساحرة، لكنها بكل أسف محطمة، وتلاقي صعوبات الإنسان العادي الذي يضطر إلى العمل حتى يتمكن من العيش في عالمنا الحديث المادي، فإذا ثار البطل على مصيره، يفشل وينتظره الجنون أو الموت. في الواقع، يحتل الاهتمام بالمال مكانا كبيرا في أعمال مارسيل إيميه بصفة عامة.
ويرى أن المجموعة تضطرنا إلى أن نخلع العباءة الأكاديمية لنرتدي لبعض الوقت عباءة المؤرخ حتى نسلط بعض الضوء على فرنسا إبان الاحتلال النازي، كيما نفهم بشكل أفضل لماذا أقبل الفرنسيون على هذه المجموعة التي صنف النقاد صاحبها باعتباره كاتبا رجعيا، وليس من الكتاب الملتزمين أو كتاب الطليعة. الحق أن إيميه لم ينخرط في المقاومة السرية ومع ذلك فإن الجماهير العريضة هي التي صنعت مجده، فهل عبرت فعلا مجموعته “عابر الجدران” رغم غرائبيتها عن تلك الفترة، بحكم أن الفن الجيد هو ابن سياقه الموضوعي والتاريخي، وبحكم أن الفن لا ينفصل أبدا عن الحياة حتى لو بدا لأول وهلة غرائبيا أو عبثيا؟ وحتى نعرف أي مجتمع وأي ظرف تاريخي أنتج هذه المجموعة، فتخيل عزيزي القارئ ماذا حدث للفرنسيين في تلك السنوات.
الاحتلال النازي
يتابع المترجم “تخيل أنك الآن في باريس، مدينة النور وعاصمة الفن ومنارة الثقافة، وقد صارت تحت وطأة الأحذية العسكرية الثقيلة للنازية. باريس وقد صارت سجنا كبيرا ليس فيه سوى الجوع والبرد والظلام لساعات طوال بحكم انقطاع الكهرباء. لقد صدرت مجموعتنا عام 1943 ولم يكن هناك وقتها من أمل في نهاية وشيكة لذلك الكابوس. سيكتب في قصته الأخيرة ‘أثناء الانتظار’، ‘خلال حرب 1939 - 1972، في مونمارتر، أمام باب محل بقالة في شارع كولينكور، وقف طابور من أربعة عشر شخصا’، لقد ظن الفرنسيون أن الحرب لن تنتهي، أو على الأقل أن أحدا منهم لن يشهد نهايتها، فكتب إيميه متعمدا ذلك التاريخ الخاطئ الذي يعكس نظرته القاتمة للمستقبل”.
لقد سميت سنوات الاحتلال من 1940 إلى 1945 بالسنوات السوداء حين وقعت فرنسا تحت الاحتلال الألماني الذي نهب البلاد وعطل الاقتصاد وألقى بمليون وثمانمئة ألف من الرجال أسرى في معسكرات الاعتقال الألمانية. عانى الفرنسيون من أقسى شتاء عام 1940 - 1941، ومع ارتفاع الأسعار والطوابير والبطاقات التموينية التي كانت تصرف لكل فرد بحد أقصى 1800 سعرة حرارية وتقودهم نحو موت بطيء، صار اللفت الأصفر - وكان طعاما للماشية - هو أساس النظام الغذائي للملايين من الفرنسيين. التوقيت الزمني الفرنسي صار يتماشى مع خط الزوال الذي يمر عبر برلين. حظر التجول يقيد النزهات المسائية. الهاجس المشترك لجميع الفرنسيين هو الجوع والبرد.
يشير أشرف حسن “لكن قبل ذلك كله كانت الهجرات الجماعية من فرنسا عام 1940 بمثابة سفر جديد للخروج، بالأصح هروب جماعي للسكان. هذا النزوح هو إحدى أهم الحركات السكانية في أوروبا القرن العشرين. نزوح أفرغ معظم المدن الشمالية من سكانها. ومع اقتراب القوات الألمانية من باريس (14 يونيو 1940: بداية احتلال باريس)، فر سكان إيل دو فرانس بدورهم (مليوني باريسي، أو ثلثي سكان باريس). لقد شمل النزوح عددا كبيرا من العائلات المشتتة، لن يجد جميع الأطفال المفقودين آباءهم، وفي نهاية الكارثة، ستملأ الصحف لأشهر عديدة إعلانات لهذه العائلات التي تبحث عن أقاربها أو أطفالها. يقدر الصليب الأحمر الفرنسي عدد أولئك الأطفال المفقودين بـ90 ألف طفل”.
ويؤكد أن كل هذا وأكثر عبرت عنه قصص المجموعة. لكن وسط هذا الواقع الرديء ألا يحلم القارئ الفرنسي العادي بأن يصبح قادرا على عبور تلك الجدران، أو أن يمتلك “حذاء السبعة فراسخ” لينتقم من سلطة المؤسسة. المارشال بيتان الذي يزعم أنه هدية الرب لفرنسا ويبارك الاحتلال ويدعو الفرنسيين أبناء الدولة لا الجمهورية إلى التعاون مثله مع المحتل، والقوانين التي يصدرها الاحتلال كل يوم ألا تجعل وجود الفرد كابوسيا؟ حيث تعد بطاقات التموين “بطاقات حياة”. والقوانين المتعسفة التي تصدرها يوميا حكومة فيشي ألا تجعل المواطن يتشيأ فتصادره مصلحة الضرائب. التوقيت الزمني الفرنسي الذي صار يتبع برلين ألا يقدم مبررا لقصة “المرسوم” حين تقرر الحكومات تقديم الزمن لسنوات، وتقنع الناس بأن العمر قد مر.
ويجعل الخطاب الديني الذي يعتبر كل فريق يخوض حربا مقدسة وأبطاله كلهم من الشهداء، فكرة قصة “أسطورة بولديفية” طبيعية، وهي عن امرأة بسيطة تزاحم الجنود مطالبة بحقها في دخول الملكوت. و”المحضر” الذي يلتزم بقانون الدولة - قانون بلا قلب يحجز على أثاث الفقراء الضئيل - هل له أن يطمع في رحمة الرب؟ القصة الأخيرة عن طابور طويل جعل أربعة عشر شخصا ” أثناء الانتظار” أسرة واحدة تقريبا. طابور استمر أكثر من ثلاثين عاما، حيث يقدم لنا إيميه ثلاث عشرة شهادة حقيقية عن باريس تحت الاحتلال، أما الشهادة الرابعة عشرة فلا نعرفها لأن صاحبتها تموت بكل أسف قبل أن تخبرنا بحكايتها.. لكن الكاتب ناب عنها وحكى لنا الكثير.