"ظل الريح".. ملحمة عن القتل والجنون والحب المنكوب

أربع سنوات مرت على رحيل الكاتب الإسباني كارلوس رويث زافون، بينما لا يتوقف إعجاب النقاد بأسلوبه وخصائصه الفنية التي جعلت منه واحدا من الكتاب العالميين الكبار، ولعل أشهر أعماله الذي سيعيش طويلا من بعده روايته “ظل الريح” التي تؤكد قدرة الكاتب الكبيرة على نحت الشخصيات وسحر كل من يقرؤه.
وصف النقاد رواية الكاتب الإسباني كارلوس رويث زافون “ظل الريح” بأنها “أحد الاكتشافات الأدبية العظيمة في العصر الحديث،” وأنها “رواية لا تقاوم حصلت في زمن قصير على ثناء في كل العالم، وتضمنت من الأسرار والخفايا ما جعلها مغوية مثل دمى الماتريوشكا الروسية،” كما أنها “رواية استطاع فيها زافون الجمع بين غارثيا وماركيز وأمبرتو إيكو وخورخي لويس بورخيس في مشهد ساحر ومعقد ببراعة ثاقبة وكتابة عجيبة، رواية تمكّن فيها زافون من سرد حكاية ملحمية تحبس الأنفاس وتورط القارئ في طلاسمها بمتعة قل مثيلها.”
الرواية التي ترجمها معاوية عبدالحميد وقدم لها أحمد مجدي همام وصدرت عن دار مسكيلياني وبيعت منها أكثر من خمسة وعشرين مليون نسخة في 36 إصدارا، وبلغات مختلفة وفي أكثر من 30 دولة، تنطلق من صباح أحد أيام صيف عام 1945، حيث يقود تاجر كتب نادرة ابنه الصغير دانيال إلى مكان مخفي غامض في قلب المدينة القديمة: مقبرة الكتب المنسية، حيث توجد نسخة من كل كتاب مهدد بالضياع، وهناك، يجد دانيال كتابا ملعونا يغيّر مجرى حياته ويجره إلى متاهة من المكائد والأسرار المدفونة في روح المدينة المظلمة، لنعيش لغزا أدبيا تدور أحداثه في برشلونة في النصف الأول من القرن العشرين، والتي تمتد من عصر الثورة الصناعية إلى السنوات التي تلت الحرب الأهلية الإسبانية. وقبل كل شيء قصة حب مأساوية يتردد صداها عبر الزمن. وبقوة سردية عظيمة، ينسج المؤلف الحبكات والألغاز مثل الدمى الروسية في قصة لا تنسى عن أسرار القلب وتعويذة الكتب التي يستمر فضولها حتى الصفحة الأخيرة.
بناء الشخصيات
عقب وفاة والدته، يجد دانيال العزاء في كتابه الغامض الذي يحمل عنوان “ظل الريح” بقلم خوليان كاراكس وهو كاتب إسباني مغمور، وعندما يشرع في العثور على أعماله الأخرى، يكتشف اكتشافا صادما: هناك شخص ما قام بتدمير كل نسخة من كل كتاب كتبه كاراكس بشكل منهجي. في الواقع، قد يكون لدى دانيال آخر كتب كاراكس الموجودة. وسرعان ما يفتح سعي دانيال البريء على ما يبدو الباب أمام أحد أحلك أسرار برشلونة، قصة ملحمية عن القتل والجنون والحب المنكوب.
في الرواية يشعر القارئ بالانتقال إلى برشلونة التي وصفها زافون بحيوية استثنائية؛ الشوارع، الناس، المكتبات، المقاهي. فهو يُظهر لحظات ما قبل الحرب الأهلية أو خلالها، وهذا ساعد على خلق مواقف ذات مصداقية نرى فيها الشخصيات وقد تحطمت أحلامها لأسباب اجتماعية أو جنسية أو أخلاقية في ذلك الوقت. شخصيات، تركت كل واحدة منها علامة تميزها، كونها مبنية بشكل مثالي ومدروس وفي بعض الأحيان يكون هناك تشابه بين قصص بعضها البعض، مما يمنحها لمسة غير عادية.
ترتبط قصص رواية “ظل الريح” ببعضها البعض من خلال الشخصيات وخيوط الحبكة التي تبني جسورا سردية وموضوعية، على الرغم من أن كل واحدة منها تقدم قصة مغلقة ومستقلة ومكتفية بذاتها.. هناك خلق للإحساس بالغموض في بداية الرواية، وهناك أوجه تشابه واضحة بين الشخصية الرئيسية دانيال، وخوليان كاراكس الكاتب الذي يحاول الكشف عن ماضيه. لكن في نهاية المطاف قصتا دانيال وخوليان منفصلتان، ويصادف أنهما يترابطان مع بعضهما البعض عن طريق الصدفة وليس عن طريق التصميم.
يرى أحمد مجدي همام في مقدمته للرواية أنه إذا كان تلخيص الروايات الجيدة أمرا متعذرا فإن محاولة مقاربتها عن طريق التشبيه قد تكون فكرة معقولة، ويقول “مثل لوحات الفنان الهولندي بيتر بروغل (1525 ـ 1569)، تطل علينا رواية ‘ظل الريح‘ للكاتب الإسباني كارلوس زافون (1964 ـ 2020) في نسختها العربية الأولى محتشدة بشخصياتها، والدراما الخاصة بها، ومتشابكة كدغل أمازوني لا تصل الشمس إلى أرضه، أو تكاد لا تصل، لذا يحتاج أيّ مستكشف حقيقي، يحمل معداته، إلى قنديل للإضاءة ومنجل لتفادي الأغصان المتشابكة وقبل ذلك كله يحتاج إلى جرعة وقائية تحسبا لأيّ مضاعفات قد تسببها المنعطفات الدرامية لهذه اللوحة الساحرة.”
ويتساءل همام: لماذا الفنان بروغل؟ ويجيب “تحتشد لوحات الرسام الهولندي بعشرات الشخصيات، دون أن تكون أية واحدة منها مجرد خلفية أو عنصرا مساندا فحسب لعنصر آخر رئيسي، بل يتجلى كل شخص في لوحات بروغل، بطلا منفردا بذاته، ومشاركا في بطولة جماعية في الوقت نفسه. ويمكننا ملاحظة ذلك في لوحات ‘المعركة بين المهرجان ويوم الصيام‘، و‘ألعاب الأطفال‘، و‘الطريق إلى جلجثة‘، حيث يستطيع المشاهد ـ باستخدام عدسة مكبرة ـ رصد تفاصيل كل شخصية ضمن عشرات الشخصيات الموجودة في اللوحة، دون أن يكون أحدهم مهملا أو مبتورا أو ناقصا على أي نحو، ويمكنه أيضا ـ باتخاذ مسافة أبعد من اللوحة، وبالعين المجردة ـ رصد القرية بأكملها، بجموع بشرها وحيواناتها وزرعها وسمائها ومياهها، بوصفها وحدة فنية أكبر وأشمل، كذلك تبدو ‘ظل الريح‘.”
ويرى همام أن هذه الرواية الكرنفالية الفريدة، شبيهة بلوحات بروغل وحشوده، حيث سيقابل القارئ شخصيات عديدة، تبدو كل واحدة منها مستكينة في موقعها الصحيح ضمن شبكة درامية كبيرة، كبيرة فعلا، ومثيرة للحسد حيال براعة زافون في الحفاظ على خيوط اللعبة، دون أن تضل الشخصية طريقها أو تشتبك بغيرها بشكل عشوائي لتكوّن عقدة أو نتوءا في السرد قد يقودان إلى ضياع القارئ ويفقدانه بوصلته. فلا واحدة من تلك الشخصيات جاءت زائدة عن الحاجة أو كانت بمثابة ترهلات في جسد الحكاية، وإنما جاءت بوصفها ضرورة فنية، سينتبه إليها القارئ حتما، لاسيما وأن الرواية تتناول حياة كاملة، ومساحة كبيرة من حيوات الأبطال تمتد لسنوات.
سمفونية من الأصوات
يبين همام أن الحس البوليسي ـ الكفيل بمنح أي قصة بعدا تشويقيا كبيرا ـ حاضر في “ظل الريح” كنكهة رئيسية، فثمة جريمة أو جرائم إن شئنا الدقة، وثمة محاولات لإماطة اللثام عن مساحات كبيرة من الغموض، عناصر الشرطة حاضرون ـ الفاسدون منهم والشرفاء ـ السرقات، محاولات النصب، الاختطاف، التهديد، التعذيب، الأسلحة النارية.. كافة عناصر الحبكة البوليسية حاضرة بسخاء. أيضا الصبغة الرومانسية فهي عنصر رئيسي لهذا الطبق، فقصص الحب كثيرة تتنزل ضمن خيط الدراما، ويتداخل بعضها ببعض، فلا تعرف أين تقف حدود العلاقة وأين تنتهي، وتلك لعبة الماكر زافون، تظنه أراحك من لهاث الركض وراء الأحداث في الحبكة البوليسية، فتجد نفسك تركض على مضمار آخر لا تدري متى يعيدك إلى الأول، وفي الحالتين معا أنت مستسلم لهذه التقاطعات والمنعطفات ومستمتع بالضياع.
ويؤكد أنه في وسط هذا الطوفان وفي غمرة انهماكك في فرز الألوان والمذاقات والشخوص نرى قدرة زافون على منح كل شخصية لسانها وأسلوبها. سترى بنفسك الجمل المقتضبة لخوليان كاراكس، وستندهش أمام الجمل الخطابية الوعظية المتحاذقة لفيرمين دي توريس، أو اللغة المميزة من باقي السرد، فهل نحن سمفونية من الأصوات المتنافرة المتلاحقة في آن واحد، هل نحن أمام مايسترو لا يفوت صوتا إلا ويستدرجه بلطف إلى مقطوعته الموسيقية الضخمة؟
ويتابع “لقد أقر زافون نفسه في إحدى المقابلات التي أجريت معه بأن مقاطع موسيقية كثيرة كانت تتناهى إلى ذهنه وهو يؤلف ‘ظل الريح‘ فيجلس ويدونها، أو يقوم بعزفها. فهل نحن إزاء قطعة موسيقية تصويرية؟ الإجابة مرة أخرى في جعبة زافون. وما يجدر التنويه به في هذه المقدمة هو الأسلوب لكارلوس زافون الذي اجترح هذا العمل في الأصل باللغة الإسبانية، فهو يمتلك لغة انسيابية بشكل آسر، في الوصف التقريري أو التشبيه والمجاز أو حتى في اختيار المفردة، فالأسلوب هو شرف الكاتب كما تنص القاعدة الشهيرة، ومن هذه الناحية فنحن أمام كاتب يتمتع بصوت منفرد ومميز وعذب، عدا كونه طيعا وقابلا للتوظيف في مستويات عدة، ينزلق في الحس الساخر، ويبدو متأملا وحكيما حال جنوحه لإدراج خلاصات حياتية شعرية، كما يركز عند نقطة الصفر بمرونة في الجانب الوصفي التقريري.”
◙ رواية كرنفالية فريدة شبيهة بلوحات بروغل وحشوده حيث سيقابل القارئ شخصيات عديدة كل واحدة منها لها موقعها وعوالمها
ويلفت إلى أنه باختصار يمكن القول إن لكارلوس زافون بصمة مميزة، يمكن تشبيهها بشيء من التجاوز ببصمة بيتر بروغل في لوحاته. وحريّ بنا هنا الإشارة إلى المجهود الجبار الذي بذله المترجم في ترويض نص بهذا التنوع والثراء. فتشابك خيوط الحكاية مدهش، تتناسل الحكايات وتتكاثر انشطاريا، وتتفرع عن الحبكة المركزية حبكات أخرى، بالطريق التي أسماها الروائي ماريو برجاس يوسا (1936) في كتابه “رسائل إلى روائي شاب” بـ”الأواني المستطرفة”، آلة دقيقة تتكون من البراغي والأذرع والتروس والأسطوانات وأنابيب الضغط، حتى الهامشيون لهم نصيب من تسليط الضوء، وهكذا تكتمل اللوحة. وستتكفل الألغاز المبثوثة على امتداد الرواية بجعلك مشدودا كقوس، لكن تأكد أن كل تخميناتك وتوقعاتك ستبوء إلى الخيبة، لأن المنعطفات الدرامية هنا كثيرة، مع كل فصل ومقطع وقسم.
ويخلص همام في مقدمته إلى أن قارئ “ظل الريح” سيجد نفسه مترددا إزاء حشد من الصفات يمكن خلعها على الكاتب: أهو حيال رسام حقيقي، يستطيع أن يضاهي المناظر الطبيعية وأن يمنحها عمقا أكبر من ذاك الذي تتمتع به في الواقع، أم هو قبالة موسيقار ما ينفك عن توليف الأصوات والإيقاعات، موسيقار يعرف وحده متى يجعل الإيقاع عاليا محتدا، ومتى يكون متقطعا، ومتى يكون ساكنا مثل بحيرة راكدة. ولعله سيضيف إلى الصفتين صفة الساحر الذي لا يتوقف عن مفاجأة الصبيان وكسر آفاق انتظارهم، وليس استدعاء صورة الساحر والصبيان هنا من قبيل الإسقاط، فقد بدأ زافون وهو من مواليد 1964 حياته الأدبية بالكتابة للناشئة.
أصدر زافون في هذا المجال أربع روايات “أمير الضباب” التي نال عنها جائزة Edebe لأدب الناشئين والأطفال سنة 1993، و”قصر منتصف الليل”، و”أضواء سبتمبر”، و”مارينا”، ولم يصدر روايته الأولى خارج هذا النوع الأدبي ونعني بذلك “ظل الريح” إلا عام 2001 فهل انتقل زافون من سحر الصغار إلى سحر الكبار؟ وهل في نزوعه إلى كتابة سيناريوهات الأفلام إضافة إلى ذلك محاولة لجعل المكتوب مرئيا ومسموعا في السينما مثلما جعل المرئي والمسموع مكتوبا في هذه الرواية؟ وهل تكمن براعة الرجل في استدراجه القارئ إلى الرواية وتوريطه في أحداثها فحسب؟ ألا تطرح “ظل الريح” من القضايا ما يجعل الحكي نفسه وسيلة لقول شيء آخر؟ أيّ قيمة للكتب في عالم يلفه الصمت والنسيان؟ وأيّ معنى للحرب؟ ما الذي أفرزته الحداثة غير كائن استهلاكي لا يتوقف عن الأكل وهو لا يعرف أنه المأكول في النهاية؟ وهل في الكتاب حياة أخرى غير التي نعيشها؟ أليس الأدب ما يبقى بعد زحف النسيان على كل شيء؟ هل قبرت الكتب فعلا، وأخذتها الريح أم لا خيار لنا غير تعقب “ظل الريح”؟ تلك هي بعض التساؤلات التي أثارتها الرواية، أمّا الأجوبة فتطلب من كل قارئ أن يتعقب بنفسه “ظل الريح؟