ظلال الأزمة الأوكرانية على الأجواء العراقية

الانعكاسات السلبية للحرب بين موسكو وكييف على العراق لا تتوقف عند هذا الحد بل إن العلاقات المتشعبة بمختلف الجوانب والمجالات بين العراق وروسيا لا بد أن تتأثر بما يجري على الأرض.
الثلاثاء 2022/04/19
أي ارتدادات للأزمة الأوكرانية على العراق؟

من الطبيعي جدا أن تتسبب أزمة خطيرة تصل إلى درجة الحرب العسكرية المدمرة، كتلك الحاصلة حاليا بين روسيا وأوكرانيا، باهتزازات وتصدعات سياسية وأمنية واقتصادية كبرى على الصعيد العالمي، بحيث أن تأثيراتها وتداعياتها لا تقتصر فقط على رقعة جغرافية معينة مجاورة لميدان الصراع والمواجهة العسكرية المسلحة.

تداخل المصالح في عالم اليوم بين دول وكيانات ومجتمعات تفصل بينها محيطات وقارات، جعل من أي أزمة تحدث في هذا البلد أو ذاك تنعكس سريعا على البلدان القريبة والبعيدة على السواء، مع تفاوت في مستويات التأثر والتأثير، ارتباطا بدرجة المصالح وطبيعتها.

فالأزمة التي تسببت منذ الأيام الأولى لاندلاعها بدمار هائل بالبنى التحتية والمراكز الحيوية الأوكرانية، بفعل القدرات العسكرية الروسية الهائلة من حيث العدد والتقنية، ألقت بظلال ثقيلة على المشهد الروسي العام، من خلال جملة إجراءات عقابية اقتصادية، وحملات مقاطعة راحت تتسع يوما بعد يوم، لتمتد إلى الرياضة والثقافة والسياحة والتعليم.

يخطئ كثيرا من يعتقد أن روسيا لم ولن تتأثر، انطلاقا من كونها قوة عظمى تمتلك إمكانيات وموارد هائلة، إلى جانب حضور فاعل ومؤثر في عموم الساحة الدولية، وفي ذات الوقت، يخطئ أيضا من يعتقد أن كل ذلك التحشيد العالمي ضد روسيا، سيرغمها على الخضوع والاستسلام، أو يفضي إلى هزيمتها وانهيارها، لأن الحقائق والمعادلات القائمة بأبعادها الاقتصادية والأمنية والسياسية والعسكرية، لم تعد تتوافق مع نظرية وجود منتصر يقابله مهزوم في كل المعارك والحروب، مهما كانت قوة الذي يخوضها ويتورط فيها.

ولعلها مقارنة سطحية وساذجة تلك التي يطرحها البعض، حين يشبّه سيناريو الغزو الروسي لأوكرانيا بالغزو العراقي لدولة الكويت قبل اثنين وثلاثين عاما، ليصل إلى نتيجة غير واقعية، مفادها أن روسيا ستواجه ما واجهه العراق، وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوف ينتهي به الأمر كما انتهى برئيس النظام العراقي السابق صدام حسين، قبل تسعة عشر عاما.

قد تكون الاستقطابات الحادة في الفضاء السياسي العراقي حيال الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، عاملا آخر لإحداث المزيد من التأزم والتشظي والتفكك، خصوصا مع وجود الضغوط الخارجية

مثل هذه المقارنات تبدو بعيدة عن الكثير من حقائق ومعطيات الواقع، لأنها تأخذ بعين الاعتبار بعضا من زوايا الصورة الكلية للمشهد وتهمل الجوانب الأخرى، فضلا عن كونها تتعامل مع ما يجري على السطح دون الغوص كثيرا في الأعماق، فالمعادلات الدولية في المرحلة الراهنة، وموقع روسيا فيها، وحجم الحضور والتأثير، يختلف تمام الاختلاف عما كانت عليه الأمور قبل عقدين أو ثلاثة عقود.

لا شك أن موقع وحجم وحضور روسيا، لا يقارن بأي حال من الأحوال بموقع ومكانة وحجم وحضور العراق، سواء في السابق أو الحاضر، فبينما روسيا تؤثر أكثر مما تتأثر، فإن العراق على العكس من ذلك، يتأثر أكثر مما يؤثر. ليس هذا فحسب، بل إن تأثره ربما يكون سريعا وملحوظا بدرجة أكبر من أغلب الأطراف المعنية.

اقتصاديا، وبحسب المعطيات الأولية، فإن ارتدادات العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وصلت إلى العراق بعد وقت قصير جدا. وفي هذا الشأن تنقل غرفة تجارة محافظة السليمانية عن رجال أعمال عراقيين أكراد تأكيدهم توقف عملهم مع أوكرانيا تماما بسبب إعلان حالة الطوارئ هناك لمدة 30 يوما، فضلا عن توقف جميع المصانع والمنتجين في ذلك البلد، مما سيسبب ضررا كبيرا لرجال الأعمال.

وتشمل الأعمال التجارية بين العراق وأوكرانيا، استيراد المواد الغذائية المختلفة والفحم وقطع غيار السيارات ومساحيق التنظيف والمواد الكيماوية، ووفق المصادر الرسمية يحتل العراق المرتبة السادسة من بين أكثر 15 بلدا له تعاملات تجارية مع أوكرانيا، ويبلغ حجم المبادلات التجارية بين الطرفين حوالي مليار دولار أميركي سنويا.

وطبيعي أنه كلما طالت الأزمة، كلما زاد مقدار الضرر الذي يمكن أن يلحق بالتجار ورجال الأعمال العراقيين، وبالتالي بالدولة العراقية والمواطن العراقي، الذي سيجد نفسه أمام موجات ارتفاع جديدة لأسعار السلع والبضائع الاستهلاكية لاسيما الأساسية منها، ولعل فرض رسوم إضافية على مرور السفن التجارية من قبل البلدان التي تتحكم بالمضايق  والممرات البحرية، كما هو الحال بالنسبة لقناة السويس في مصر، ومضيقي البوسفور والدردنيل في تركيا، سيرتب أعباء مالية إضافية، ستكون وطأتها أشد على البلدان ذات الاقتصاديات الأحادية، التي تفتقر إلى القوة الإنتاجية الصناعية، بحيث تعتمد بصورة كبيرة جدا على الاستيراد من الخارج. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن هيئة قناة السويس زادت من قيمة الرسوم المفروضة على السفن التي تعبر الممر المائي الرئيسي من نسبة 5 في المئة إلى 10 في المئة بدءا من مطلع شهر مارس.

ويشير الأكاديمي والخبير الاقتصادي عبدالرحمن الجبوري إلى “أن أي حرب تحدث في العالم، تؤثر على بقية البلدان، وبما أن العراق يعتمد بشكل شبه كامل على الاستيراد فإنه سيتأثر بكل تأكيد، خاصة أن العراق لديه تعاملات واسعة وكبيرة مع أوكرانيا في مجالات عدة، منها الغذائية والحديد والصلب، علما وأنه كان قد أجرى مباحثات مع أوكرانيا في أوقات سابقة لتنشيط التجارة معها، حيث افتتحت الحكومة الأوكرانية العام الماضي غرفة تجارة خاصة بها في إقليم كردستان شمال البلاد من أجل تفعيل العلاقات والروابط الاقتصادية بين بغداد وكييف”.

الجانب الآخر في الموضوع، يتمثل بوجود جالية عراقية في أوكرانيا يتجاوز عدد أفرادها الستة آلاف، إلى جانب المئات أو الآٍلاف من الطلاب العراقيين الذين يدرسون في جامعات أوكرانية، وحتى الآن فإن هناك أعدادا غير قليلة منهم غادروا أوكرانيا بعد اندلاع الحرب، إما ليعودوا إلى بلادهم، أو يتوجهوا بصورة مؤقتة إلى بلدان أوروبية أخرى قريبة مثل رومانيا وبولندا وهنغاريا من خلال ترتيبات بين الجهات الرسمية العراقية ونظيراتها في حكومات تلك البلدان.

ولا شك أن استمرار الأزمة، سيدفع شيئا فشيئا كل أو أغلب العراقيين هناك إلى المغادرة، وهذا يعني فيما يعنيه خسائر وتبعات وآثار اقتصادية كبيرة على الصعيد الفردي وكذلك على الصعيد الحكومي بالنسبة لكلا الطرفين.

وتذهب بعض الأوساط السياسية والمالية إلى أن العراق سينتفع كثيرا من الحرب الروسية – الأوكرانية، لتسببها بارتفاع كبير في أسعار النفط، مما سيتيح له الحصول على عوائد مالية أكبر. وفي هذا الشأن يشير الخبير الاستراتيجي عدنان الكناني إلى “أن العراق هو المستفيد الأول من الحرب الروسية والأوكرانية، وربما إيران أيضا، على اعتبار أن الولايات المتحدة لا تريد أن تفتح جبهتان في آن واحد”.  معتبرا “أن اندلاع الحرب الحالية ستساهم في تخفيف القرارات والضغوط الأميركية على القرار العراقي، فضلا عن تأثيرها الكبير على الاقتصاد، إذ أنها ستؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي زيادة واردات العراق منه”.

طبيعي أنه كلما طالت الأزمة، كلما زاد مقدار الضرر الذي يمكن أن يلحق بالتجار ورجال الأعمال العراقيين، وبالتالي بالدولة العراقية والمواطن، الذي سيجد نفسه أمام موجات ارتفاع جديدة للأسعار

بيد أن خبراء آخرين يرون أنه من الخطأ التعويل على هذه المسألة، فمع مرور الوقت ستكون الخسائر جراء الحرب أكبر من الأرباح الناتجة عنها، ناهيك عن أنه لا يمكن التعويل على ارتفاع أسعار النفط، التي يطلق عليها “أسعار أزمة”، أي أنها لا تعكس الواقع الحقيقي لمعادلات العرض والطلب، وأكثر من ذلك، هناك من يذهب إلى أنه “قد لا تكون تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية مباشرة على العراق، إلا أن ارتباط النظام الاقتصادي العالمي مع بعضه البعض يجعل من الصعوبة بمكان أن تكون أي دولة بمنأى عما يحدث”.

ولا تتوقف الانعكاسات السلبية للحرب بين موسكو وكييف على العراق عند هذا الحد، بل إن العلاقات المتشعبة بمختلف الجوانب والمجالات بين العراق وروسيا، لا بد أن تتأثر هي الأخرى بما يجري على الأرض، وبالتالي سترتب أعباء إضافية على مجمل الخارطة الاقتصادية العراقية.

ويعتقد المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي، الدكتور مظهر محمد صالح “أن هناك كثيرا من المتعلقات الأخرى في هذا الشأن، تتمثل بوجود شركات نفط روسية عاملة في العراق، قد تُفرض عليها عقوبات دولية لا تُعلم ماهية آلية تسديدها أو ما قد يترتب عليها، وهذا قد يقود إلى نظام الدفع نقدا، فضلا عن مشكلة أخرى تتمثل في احتمال انسحاب هذه الشركات النفطية الروسية من العراق نتيجة الضغط الدولي”.

فضلا عن ذلك، فإن مشاريع وخطط التعاون العسكري بين بغداد وموسكو ستصطدم بالعديد من العراقيل والمعوقات في ظل ارتباك المشهد العالمي والجو العام المعبأ ضد روسيا.

وما يزيد المشهد غموضا في العراق، هو غياب موقف موحد حيال الأزمة الروسية – الأوكرانية، وظهور مواقف مختلفة ومتباينة إلى حد كبير للقوى السياسية العراقية، وهذه المواقف انطلقت في إطارها العام الشامل، من طبيعة توجهات كل كيان سياسي وارتباطاته وامتداداته الإقليمية والدولية، وهو ما يفسر رفع صور بوتين في بغداد ومدن أخرى من قبل البعض، في مقابل قيام البعض الآخر بتوجيه انتقادات حادة ولاذعة لمثل تلك الخطوات، مع قيام بعض الجماعات هنا وهناك بتنظيم تظاهرات احتجاجية مؤيدة وداعمة لأوكرانيا ومنددة بروسيا.

قد تكون الاستقطابات الحادة في الفضاء السياسي العراقي حيال الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، عاملا آخر لإحداث المزيد من التأزم  والتشظي والتفكك، خصوصا مع وجود الضغوط الخارجية من الولايات المتحدة وأطراف دولية وإقليمية أخرى على بعض الأطراف القريبة منها لتبني مواقف محددة من الأزمة .

ولعل التصريحات الأخيرة للسفير الروسي في بغداد البروس كوتراشيف، التي أشار فيها بشكل أو بآخر إلى أن بلاده تقف على مسافة واحدة من جميع القوى والشخصيات السياسية العراقية، وأن علاقاتها طيبة مع الجميع، أريد من ورائها إطلاق رسائل إيجابية تطمينية، ومحاولة الحد من تبلور مواقف مضادة لموسكو، لكن في ظل واقع سياسي معقد وشائك، مثل الواقع العراقي، ربما لا يكون يسيرا ومتاحا الوصول إلى نقاط التقاء تجمع أكبر عدد من الفرقاء حول أي قضية من القضايا.

وبما أن حقائق ووقائع الاقتصاد متداخلة مع حقائق ووقائع السياسة، وبما أن الحرب الروسية – الأوكرانية خلطت كل الأوراق، فمن الطبيعي أن تتصاعد التداعيات وتتفاقم الانعكاسات على شتى مظاهر الاقتصاد والسياسة في العراق، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بقدر استمرار الحرب، وتصاعد وتائرها، واتساع ميادينها.

9