ظرفاء ولكن..

مشهد أبهجني صباح اليوم في أحد شوارع تونس: عامل تنظيف يدندن بأغنية “قولي أحبك كي تزيد وسامتي فبغير حبك لا أكون وسيما”.
وفي غمرة الانتشاء الطربي يثبّت صاحبنا مكنسته بيده اليسرى رافعا اليمنى في ما يشبه الميكروفون، ويغمض عينيه خلف العربة متمثلا حركات كاظم الساهر، وقد أدخل الابتسامة وفك العبوس عن جمهور عابر من المارة.
نعم، لقمة العيش مرة ومغمسة بالشقاء، لكن لا مفر من أن نضيف إليها شيئا من البهجة كي يطيب تناولها في ظل واقع صعب ومرير.
الفقر قبيح، لكن الفقراء في غالبيتهم جميلون، وظرفاء رغم احتيالاتهم الصغيرة، والتي قد تبدو مشروعة ولها ما يبررها.
وغير بعيد عن هذا الكادح الأنيق بصوته وحضوره، اندس متسول في صفوف المتظاهرين بأحد أكبر شوارع العاصمة التونسية، وبدأ يردد معهم شعارات قد لا يفهمها ولا تعنيه، لكنه يستغل تلك التجمعات الحماسية، ويستوقف في كل مرة أحدهم ليطلب منه بعضا مما رزقه الله.. وهكذا يمارس حقه في التظاهر دون أن يهمل نشاطه التسولي.
وفي هذا الصدد، قال لي أحدهم إن هذا الصنف من المتسولين ينتعش و”يشتغل” كثيرا في التجمعات الاحتجاجية المطالبة بالتشغيل.. وغالبا ما ينضم المشردون إلى أماكن المعتصمين والمضربين الذين يقيمون الخيام بالقرب من المؤسسات الحكومية التي تقع في الأحياء الغنية على وجه التحديد، وكذلك بعيدا عن عناصر هيئة مكافحة التسول.
لم يعد الناس يتفاعلون كثيرا مع استجداء العواطف التي يلجأ إليها الشحاذون الكلاسيكيون بطرق مستهلكة، بل صار انتباههم ينشدّ إلى الظرفاء منهم وذوي الحس الفكاهي الذي يكشف عن موهبة ما، ذلك أنهم قد سئموا إثارة الشفقة واستدرار الدموع في هذا المحيط المكتظ بالميلودراما البشرية.
الشحاذون أنفسهم يقرّون أن ما يجنونه في الحانات الشعبية أكثر بكثير مما قد تتصدق عليهم أيادي ممن يؤمون الصلاة بأثوابهم الفضفاضة التي تفتقر أصلا للجيوب، ثم أن الأمر يتطلب جهدا مضاعفا من حفظ الآيات والأدعية والقيام باكرا لحجز أمكنتهم أمام دور العبادة.
أما “الشحاذ الظريف” فيلج الخمارة الشعبية دون أن يصطنع عاهة أو يدعو للناس بالتوبة النصوح، يتسلح بموّال أو موالين وبعض النكات، يشاركهم كأسا أو كأسين، يغنم ما تيسر له من “أناس لا تلهيهم تجارة” ويمضي نحو حانة أخرى على نفس الإيقاع المترنح المعفر بالضجيج والدخان والمواويل.
صارحني أحد هؤلاء الظرفاء بأن نشاطهم بدأ ينحصر ويتقلص بسبب انضمام صنف جديد من المتسولين ذوي الأحقية وهم من المسحوقين حقا، وبذلك ازداد المشهد ضبابية وصار لا بد من التدقيق والتصنيف. وأضاف الشحاذ الظريف أنه غالبا ما “يحن” على من هم أولى بالتسول منه، لكنهم لا يمتلكون وسائل الإقناع.