طيش الإنترنت

لأننا نتفق على الخدمة الجليلة التي تقدمها شبكة الإنترنت للبشرية، نقبل بها ونتغاضى عن الوجه القبيح للحقيقة التي يتم التلاعب بها.
عندما يتساءل مشاهير المجتمع والسياسيون عما إذا كانت الشبكة مخلصة للحقيقة في تقديم تعريف مقبول عنهم في الحدود الأساسية.
دعك من أدولف هتلر أو الفنان مارلون براندو والشاعر الفرنسي آرثر رامبو، لأن التاريخ أقسى من قام بتعريفهم، فلو تسنى لأي منهم أن يضع اسمه في محرك البحث غوغل، فإنهم لا يمكن أن يتوقعوا إيجاد ما كان يعرّفون أنفسهم به، بما يتعلق بسيئاتهم على الأقل كأشخاص، فماذا عن فضائلهم!
لكن ماذا عن الأحياء غيرهم ممن يختلف العالم بشأنهم؟ هل سيقتنعون بتعريفات الإنترنت عنهم. دونالد ترامب، سيقول هناك زيف كامل في ما يكتب عني، الممثل جوني ديب سيرى أن عدالة القضاء لا تعادل شيئا حيال تعريفات الإنترنت عن شخصيته. كاظم الساهر سيتساءل هل هذا الشخص المُعرّف على منصات الإنترنت هو أنا حقا؟
عليّ أن أبدأ بنفسي كي أدافع عن فكرتي حيال سؤال أن ضخامة المعلومات على الإنترنت تفوق حاجتنا كبشر، وتقوض فائدتها كمصدر للمعرفة.
وجدت ما لا يمكن أن يصدق عني، بدءا بهويتي وديني وانتهاء بنسب مقالات لي لم أكتبها أصلا! بل إن عنوان مقالي المنشور قبل أسبوعين على هذه الزاوية، نقله أحد المواقع بطيش وغيّر في عنوانه مفردة القديس إلى المذنب! في النهاية سيصدق متصفح المقال عنوانه الملفق، ويصعب أن نتوقع أنه سيبحث عن نص المقال الأصلي من أجل الحقيقة، لأن اللاحقيقة هي التي ستكون حاضرة لديه حينها.
فكيف الحال بالسياسيين ومشاهير المجتمع؟ إذا كان لا يوجد ما هو صحيح، يمكن أن يكون لكل شيء كاذب، ولفرط ضخامة المعلومات على الإنترنت تكاد تكون اللاحقيقة سائدة.
إذا تكررت معلومة أن إيمانويل ماكرون ليس فرنسيا مثلا، يمكن أن تصبح جزءا مقبولا وفق مفهوم ما بعد الحقيقة، لأن ذلك وفق فرهاد مانجو الكاتب المعني بشؤون التكنولوجيا في صحيفة نيويورك تايمز يساعد على دفن البيانات المفيدة تحت تلال قمامة المعلومات.
بطبيعة الحال لا يمكن إعداد قائمة بالقصص التي يخفيها عنا الإنترنت، على الأقل بما يتعلق بأمثلة المشاهير الذين استعرت أسماؤهم. فجيوش الحمقى (التعبير للروائي الإيطالي الراحل أومبرتو إيكو) مصممون على تشكيل الواقع الطائش على الإنترنت. وإدارة غوغل وشركات وادي السيليكون تقول ما في اليد حيلة، وإن حاولنا، لأن الإنترنت مثل أي ابتكار آخر، تقدم لنا الطيب والشرير، وعلينا أن نختار.
صحيح لم يعد مفاجئا بالنسبة إلينا أن نطالب بعدم تصديق كل ما نتصفحه، لكن ذلك يعني في النهاية أن الإنترنت بوصفها خدمة جليلة تقدم للبشرية، لا تمنحنا صورة عادلة لما يحدث في العالم. ولا تعرّف لنا حقيقة المؤثرين في السياسة والفكر والعلوم والفنون.
قد يكون الأمر مقبولا عندما يتعلق الأمر بشخصيات مثيرة للجدل، فتقديم تعريفات مختلفة لها أمر لا مناص منه، لكن هناك ما يجعلنا مشوشين بشأن حقيقة آخرين، ذلك يعني أن واقعا كاذبا صار سائدا ويستمر في بناء هيكله على شبكة الإنترنت ويقدم نفسه بصلافة وإصرار على أنه ما بعد الحقيقة، بعد أن ترك الحقيقة خلفه غير مبال.
الأسبوع الماضي كتبت كارين وايز، أحد أهم الصحافيين الذين يفهمون الشركات الغارقة في الظلام في وادي السيليكون، بأنه مثلما يمكن للمنصات الرقمية أن تدمر شخصا، يمكنها أيضا، بمرور الوقت والمثابرة والجرأة، أن تدفن ماضيا مضطربا. وأنا أصدقها، ماذا عنكم؟