طمع أكاديمي في "الكتابة"

أثمرت الصحافة ديمقراطية القراءة، وأنعشت فن القصة القصيرة. وبسبب القصة القصيرة أدركتُ مبكرا أن الإبداع أكثر إغراء بخوض مغامراته ولو فاشلة، ولاحظت أن إخفاق البعض قلما يُردعهم، ويصيبهم بالإحباط، ويدفعهم إلى الاكتفاء بالتحقق في شيء آخر، بل يزيدهم عنادا إذا كانت مهاراتهم وثيقة الصلة بالإبداع، ويحترفون النقد وخصوصا الأكاديمي الذي يجعل من صاحبه أستاذا ومشرفا على رسائل علمية، وشيخ طريقة له مريدون
أحيانا.
انتبهت إلى هذا عام 1992، حين أهداني الدكتور الطاهر مكي الطبعة السادسة من كتابه “القصة القصيرة.. دراسة ومختارات”، ووجدت في المختارات قصة خلت منها الطبعات السابقة. وباستنكار قاص شاب غيور سألته عن إدراج قصة لأكاديمي يزاحم يوسف إدريس ونجيب محفوظ والطيب صالح وعبدالحميد بن هدوقة، فقال “أحرجني الرجل، وأخجلني بإلحاحه، لا يكفيه أن له عدة روايات”.
اختلطت عليّ الجملة الأخيرة “لا يكفيه أن له عدة روايات”، هل قالها بصيغة إشفاق خبرية؟ أم باستنكار واستفهام مَن استجاب إلى ابتزاز عاطفي؟ وكدت أقول إن ما ينشر بسيف الحياء فهو حرام، ولكني قلت له إن القصة في يد القاص قليل الحيلة عَجَبة، تمثلا بالمثل المصري “الكعكة في يد اليتيم عجبة”. وكان في مصر أكاديمي تولى أعلى منصب في كليته، العمادة، ولم يستهلك طاقته الكتابية “تأليف” نحو 70 كتابا، فكتب أيضا 30 كتابا يصنّف من حيث الشكل في بند “الإبداع”. إنتاج كما ترى غزير، لا يمس صاحبه يأس، ولا يتوفر إلا لآلة لا يعنيها رد الفعل النقدي.
وأنتجت السينما والتلفزيون أفلاما ومسلسلات من رواياته، وهي تزيد حجما وعددا عن تراث مالك حداد وكاتب ياسين وعبدالحكيم قاسم وإيميل حبيبي وبهاء طاهر ويحيى الطاهر عبدالله. وخبا هذا الصخب سريعا، في حياته، فلم أقرأ مقالا عن أي من رواياته، ولازمه هذا التجاهل حتى وفاته الصامتة عام 2017.
وعيت على نقاد يكفيهم النقد الأدبي، يحبونه ويرونه دورا ثقافيا وإنسانيا رفيعا: محمود أمين العالم، علي الراعي، فيصل دراج، فاروق عبدالقادر، رجاء النقاش، غالي شكري، عبدالقادر القط. أتذكر هؤلاء، وغيرهم من الجيل الأسبق، فأشفق على أكاديمي متأنق أتخيله لا يتخلى عن البدلة الكاملة وربطة العنق ولو على الشاطئ وفي حمام السباحة، إذ يصرّ على لقبه العلمي “أ. د على سبيل التواضع بالاختصار”، أو “الأستاذ الدكتور إثباتا للاستحقاق”، فيضعه قبل اسمه على غلاف ما يسميه رواية، وهي في الأعم طرف من سيرة ذاتية تسجل تفوقا دراسيا يستند إلى قدرة الذاكرة على استرجاع المعلومات، منذ الطفولة حتى التخرّج في الجامعة بتفوق يؤهله لبدء رحلة الانضمام إلى هيئة التدريس.
لعلك صادفت أكاديميا نشر ديوان شعر أو مجموعة قصصية أو رواية ولم تحظ بحفاوة انتظرها، ويتحمس من جديد للكتابة والنشر. كلما رأيت أحدهم، يمنعني الحياء أن أسأله: هل يكفي الإلمام بالقواعد الاحترافية واستيفاء الشكل لكتابة الإبداع؟ وإلى أي مدى تنظر بموضوعية إلى نجاح الموهوبين؟ وأي إبداع تنصح طلابك أن يقرأوا؟ وكيف تختلف عن قاض يطمع في اقتسام ما يحكم به لصاحب الحق؟
بدأت بالديمقراطية وبها أنتهي. فلنترك الملك للمالك، ونرحب بنشر أي شيء، حتى ابتذال “الكتابة” بتفاهات يتكفل بها الزمن. ولا أذهب إلى استهجان مبدئي، ومصادرة يستسهلها البعض لمجرد سماع عن رواية لأي من هؤلاء: واعظ تربحه دعوة المسلمين إلى الإسلام، قاض، محقق للتراث، صحافي، أكاديمي، سيناريست، مؤرخ، مترجم أعجبته لعبة التعريب، شاعر يئس من القصيدة ولا يعي أن الرواية سرد يحتفل بخطايا البشر وهو يثقلها بأعباء لغة الآلهة.