طلبة الأزهر من الأجانب يختارون عيشة "الغيتو" في القاهرة

اللغة ليست الحاجز المانع أمام الطلبة الوافدين على جامع الأزهر من التأقلم مع المجتمع المصري، بل هناك عوامل عديدة أخرى نفسية واجتماعية، منها عدم فهم القادمين الجدد لطبيعة المصريين إضافة إلى العادات والتقاليد المختلفة، هذا من جانب ومن الجانب الثاني المصريون لا يساعدون الوافدين الجدد على التأقلم والتواصل.
القاهرة – لا تكاد بقعة في ضاحية الحسين التاريخية وسط القاهرة تخلو من الطلاب الوافدين للدراسة في الأزهر. تواجدهم غير مرتبط بحيز الجامعة والجامع الأزهر اللذين تفصل بينهما بضعة أمتار ويتواجهان مع ساحة مسجد الحسين الشهيرة، لكنه متوغل في الأزقة والمدقات وداخل البنايات العتيقة حيث يقطن الآلاف منهم.
رغم الانتشار الواسع للطلاب الوافدين، وفي المقدمة الوافدون من دول شرق آسيا، تظل معادلة التلاقي الثقافي والحضاري لإحداث أكبر قدر من التأثير والتأثر غير مكتملة الأركان في تلك الحالة، إذا قورنت بالوافدين السوريين الذين أثروا على المجتمع المصري واختلطوا به في النسب وتبادلوا معه المأكولات والعادات والتقاليد.
تبدو معيشتهم أشبه بحياة “الغيتو” أو العزلة، بسبب عدم القدرة على التأقلم سريعا مع المصريين، لعدم إتقان اللغة والبون الشاسع في العادات.
أقامت جامعة الأزهر مدينة سكنية اسمها “البعوث” بالقرب من حي الحسين، تستوعب غالبية الطلبة الوافدين، وتوفر الجامعة السكن والمأكل والمشرب نظير مقابل مادي زهيد، في محاولة لتشجيع الإقبال على الالتحاق بالأزهر الذي تعتبره الحكومة إحدى أدوات قوتها الناعمة.
في الساحة الحسينية يرتاد الوافدون مقاهي المصريين ويأكلون الكشري (وجبة شعبية شهيرة من الأرز والعدس) ويجاورونهم في البنايات، ولا يعرف أكثر المصريين اختلاطا بهم سوى كلمات بدائية من لغتهم كـ”صباح الخير” و”عفوًا”، وأنهم (أهالي ضاحية الحسين) يحتاجون إلى استعادة أكبر قدر من اللغة العربية الفصيحة المخزونة في ذاكرتهم كي يستطيعوا التحدث معهم.
تتذكر بسمة أشرف (24 عاما) اليوم الذي رأت فيه طالبات أزهريات من أندونيسيا يفترشن الشقة المقابلة تمهيدا لسكنها.
وقالت لـ”العرب” “وجدتها فرصة ذهبية للتعرف عليهن عن قرب، وبناء صداقة للتعمق في عاداتهن، أردت أن أسألهن عن وجباتهن المفضلة ومستحضرات العناية بالشعر، لكن لم أستطع، هن منعزلات، لا يختلطن بنا، ولا يفتحن الباب لمن يطرقه عليهن، حتى إذا كانت الطارقة امرأة، بعد أن قاربت جيرتهم لنا على العام”.
يسود الانغلاق صفةً عامة بين الوافدين، وإن كانت ترتفع لدى الفتيات عن الذكور، وإلى جانب تجنب المضايقات أو الخوف من التحرش الذي يعزز انغلاق الوافدات، تأتي اللغة كعائق أساسي في التواصل والانخراط، ويفشل الوافدون في فهم العامية المصرية، ولا يجيد أغلبهم التحدث بالعربية الفصحى . يذكر الطالب في كلية اللغة العربية أمير الحافظ -وهو وافد من أندونيسيا- لـ”العرب” كيف أنه يجد صعوبة في التواصل مع المصريين بسبب اللغة، ويتذكر أحد المواقف الطريفة عندما ذهب إلى بائع جبن ليطلب منه “جبنا فاسدا” قاصدا بذلك نوعا من الجبن المصري يغلب على مذاقه الملح ويسمى “جبنا قديما”، ولم يفهم البائع قصده إلا بعد عناء.
يضيف الحافظ أنه وجد صعوبة في التكيف مع حياة المصريين وعاداتهم التي تختلف بصورة كبيرة عن عادات بلاده، لكنه تجاوز ذلك لاحقا، وأكثر ما يزعجه الصوت المرتفع الذي يتحدث به البعض من المصريين، فضلاً عن الشجار بشكل لافت، لكنه أثنى على حسن ضيافتهم وطيبتهم. ويبذل الشاب الأندونيسي جهدا لالتقاط بعض العبارات بالعامية المصرية، إذ أجاب عن سؤال “العرب” حول مدى التأقلم بعبارة “شوية شوية” وهي عبارة تعني ببطء.
وخلافا لأمير الحافظ، ما زال الطالب الياباني رجب يواجه صعوبة في التأقلم مع الزحام والعشوائية الظاهرة في القاهرة، على عكس الطبيعة المنظمة في طوكيو، وهو يعتمد على صديقين مصريين تعرف عليهما في الجامعة لتعليمه الكلمات التي يحتاج إليها للتعامل مع الناس وشراء احتياجاته، خصوصا أنه حديث عهد بمصر.
يدخل رجب مطعم كشري لشراء وجبة، بينما يرتدي قميصا طُبعت عليه عبارة “القاهرة إن لم تقهرها قهرتك”، للتعبير عن مدى التكيف مع الطقوس المصرية.
يعيش الطلاب الوافدون في جماعات، عادة ما تتألف من بلد واحد، فيتجمع الأندونيسيون في مساكن واحدة، والماليزيون كذلك، ويحرص الوافدون على التجمع في عطلة الأسبوع خاصة للعب الكرة (للرجال) والتحدث للفتيات.
يتولى وافدو الأزهر مهمة الإنفاق على أنفسهم، فهم من غير الحاصلين على منح للدراسة، لذا يقطنون في شقق سكنية، وكلما كانت المسافة أقرب ارتفع سعر الوحدة، ويصل متوسط سعر الوحدة السكنية (60 مترا) إلى 3 آلاف جنيه (نحو 175 دولارا أميركيا)، فيما يبلغ متوسط سعر الوحدة نفسها في منطقة أخرى مثل عين شمس (شرق العاصمة) 500 جنيه فقط. وهروبا من ارتفاع الأسعار، اضطر بعض الطلاب الوافدين إلى العمل في القاهرة، لكن رغم ذلك ظل عملهم في نطاق مجموعاتهم، ومن أبرز المشاريع التي افتتحها الوافدون في حي الأزهر المطاعم وصالونات تصفيف الشعر للرجال.
افتتح الوافدون في حي الأزهر المطاعم وصالونات الحلاقة للرجال، لكن عملهم ظل في نطاق مجموعاتهم
داخل مطعم صغير بدائي، يضم 6 طاولات فقط، ولا يفصل ساحته عن مطبخه سوى ستارة من البلاستيك، وتبدو الأجواء مشبعة بروائح التوابل النفاذة، تجلس مجموعة من الطلاب الأندونيسيين، بعضهم يرتدي الملابس التقليدية لبلادهم كما جرت العادة عند تناول وجباتهم.
في المقابل لا يرتاد المصريون هذا المطعم رغم الترحيب عند دخولنا ظنا أننا زبائن جدد، ويعترف أصحاب الورش المجاورة بأنهم أحيانا يشترون منه وجبات جاهزة، لكنها وجبات معروفة لهم دون الإقبال على تجربة الوجبات الأندونيسية الخاصة.
على بعد 500 متر، وفي أحد الأزقة يعمل محمد فضل من أندونيسيا في صالون لتصفيف الشعر، وتعلم تلك المهنة منذ شهور فقط على يد مصفف مصري، هو صاحب الصالون، لكنه يعمل في تصفيف شعر الطلاب الوافدين فقط ويجد صعوبة في تصفيف شعر المصريين لاختلاف طبيعته.
يعمق اختلاف الطبيعة لدى الوافدين الشعور بالغربة ويدفعهم ذلك إلى التنازل عن حقوقهم تجنبا للصدام أو الدخول في مشكلات لا يريدونها.
يروي شاب مصري عشريني يعمل في إحدى الورش، ويدعى محمود فطوطة، بتأثر كيف يتعرض الوافدون لمضايقات من البعض، مشيرا إلى واقعة حدثت قبل أيام حاول فيها مراهق سرقة وافدين في وضح النهار، بعدما هددهم بسكين صغير، وعندما حث الأهالي الضحيتين على تقديم شكوى في قسم الشرطة ردوا “لمن نشتكي؟ نحن غرباء”.
وسط الغالبية التي تشعر بالغربة، استطاع بعض الوافدين النفاذ إلى المجتمع، وتكوين أسرة بهدف الاستقرار، لكن تلك الأسر وإن نوت الانتماء إلى القاهرة في الإقامة تظل بجذور أندونيسية خالصة، وغير منتشر زواج الوافدين من المصريات أو العكس.
استقر جمال الدين في القاهرة منذ 8 أعوام، فبعد الانتهاء من دراسته عاد إلى أندونيسيا وتزوج فتاة جاءت في الأزهر، فيما استكمل هو دراسته العليا، لافتا إلى أنه يعمل في التجارة، ويجلب بضائع من بلاده لبيعها للطلاب الوافدين، ولا ينوي فراق القاهرة التي أحبها وعشقها وخرج نجله الأول للدنيا منها.