"طفل الثامنة والتسعين النصراني" ثماني روايات في رواية واحدة

يكتب الكاتب والأكاديمي والشاعر اليمني هاني الصلوي نصوصه على اختلاف أنواعها وأجناسها بنفس مغاير تماما، متمردا على المألوف منفتحا على تيارات ما بعد الحداثة، وهذا ما يواصله في روايته “طفل الثامنة والتسعين النصراني”. “العرب” التقت الصلوي وكان بيننا هذا الحوار لإلقاء الضوء على هذه الرواية/ الروايات وما يعتمل داخل مشروعها من تجليات فنية وتقنية.
يعد الكاتب والأكاديمي والشاعر اليمني هاني الصلوي واحدا من كتاب قليلين يشتغلون على مناح إنتاجية عدة بجانب انشغال نصه في عمومه بالمجالين السياسي والاجتماعي، وهو اليوم يفاجئ المشهد برواية من جزأين سماها “طفل الثامنة والتسعين النصراني”، بعد ما عمل عليها ما يقارب عشرين سنة، قرأ الرواية خلالها عدد من النقاد والكتاب وغيرهم من المهتمين بالشأن الثقافي، من أصدقاء الكاتب، وكنت أحد هؤلاء، وأصدقائهم، حتى لكأن الرواية قد نشرت من زمن، وعرفت بصاحبها وعرف بها.
ولعل من وجوه الإثارة في تعامل القارئ مع طفل الصلوي النصراني ابن الثامنة والتسعين، ما عثر عليه جملة من نقاد الرواية، في هذا العمل لنجد الكاتب والمترجم التونسي حافظ محفوظ يجزم بأنَّ هذا العمل إنما هو رد على ما وقع في الرواية مؤخرا من نمطية، كما ورد على غلاف النصراني الخلفي، أما الناقدة والمترجمة الفلسطينية أماني أبورحمة فقد رأت أوجه تفرد كثيرة اختصت بها الرواية التي تنتسب فنيًا إلى عوالم ما بعد الحداثة.
كتابة التاريخ
الرواية تعيد كتابة تاريخ الشيوعية في المنطقة العربية وشرق أفريقيا وتتنقل في التاريخ والأساطير الإغريقية والفينيقية
تتمحور حبكة الرواية وهيكلها في رواية أصلية، مدمجة بها مقاطع من رواية لجوزيف عبدالقيوم، ومقاطع من رواية لكل من عمر عيسى طربوش، ونبيل مسعود، كتب الرواية الأصلية روائي اسمه باسم عبدالقيوم العريقي الذي هو شخصية أيضًا فيها وقد سماها “سرور البينيان”، الرواية التي حققها بعد ذلك وليد حنبلة بعدما وصلت إليه عدة روايات عن شخصية النصراني أعطاه إياها شخص مجهول اسمه عدنان المغلس، ولما فتش وراء نصوصها هذه وصل إلى عمر عيسى طربوش وإلى رواية باسم “سرور البينيان” وإلى باسم ورفيقته عبير، فقرر وليد حنبلة تحقيقها تحت اسم “أحمد النصراني” فأصبحت رواية واحدة تتضمن ثماني روايات، وهذه الروايات في المحصلة هي رواية “طفل الثامنة والتسعين النصراني” لهاني الصلوي، والتي ظهرت في جزأين كبيرين كما سبقت الإشارة.
باختصار شديد كتب باسم عبدالقيوم العريقي رواية باسم “سرور البينيان” ونشر منها أكثر من طبعة، وبعد زمن ورط عدنان المغلس المؤرخ وليد حنبلة بمستندات وكتابات عدة متعلقة بهذه الرواية، ولما اختفى عدنان وفتش عنه حنبلة لم يجده ووجد الفاعلين الآخرين من مثل عمر عيسى وباسم عبدالقيوم المؤلف الأول، قرر حنبلة تحقيقها بمساعدة الجميع، فأصدرها تحت عنوان أحمد النصراني عام 2007 ولما ثار الجميع ضده نشرها في طبعة ثانية 2013، وأنكر في مقدمة جديدة كل ما قاله في المقدمة السابقة واجترح أفعالا أنكى وأشد.
يشكل هذا العمل ثماني روايات تدور حول بطل مجهول معلوم متعدد الكنى والألقاب فهو “الزميكر” و”الشبلي” و”أبوفراس” حاضرا، وربما هو المتصوف أحمد بن علوان والمعلم أحمد وأسماء أخرى، وهذه الرواية تعيد كتابة تاريخ الشيوعية في المنطقة العربية وشرق أفريقيا ومحيطهما العالمي، كما أنها تتنقل بأبطالها في التاريخ والأساطير الإغريقية والفينيقية في اشتباك كل ذلك بالتاريخ اليمني القديم والحديث عبر وصلات كثيرة منها الوصلات الشخصياتية مثل كفافيس الشاعر اليوناني السكندري ورامبو الشاعر الفرنسي وإدموند جاييس الشاعر المصري الفرانكفوني ومؤرخ الحضارة أرنولد توينبي، ومنها وصلات أثرية مثل تمثال أثينا الربة الإغريقية ذات الأصل الأوساني نادين ذي صدقن.
ولا تتوقف الرواية عن السرد وابتداع الحوادث وربما مناقضاتها أحيانا، من خلال دخول حوادث جديدة على خط السرد أو من خلال الرقيب المرن والقاسي في الوقت نفسه الذي يتدخل في الهوامش في كل صغيرة وكبيرة معدلا أو مؤيدا أو مخطئا وهناك كثيرون مثله يسايرون حركته مثل سامر العبسي البروفيسور والمؤرخ أيضا وهناك عبير العزي أيضا.
حول تأخره في إصدار الرواية يقول هاني الصلوي لـ”العرب”، “ثمةَ مسببات كثيرة لتأخري في نشر النصراني رغم أني لم أعدل فيها غير القليل، فعند انتهائي منها في 2005 أرسلتها للنشر مرات وظللت أتراجع مرارا، وفي العام 2010 أرسلتها إلى إحدى دور النشر الكبيرة فتحمسوا لنشرها، غير أني أحسست أن ‘النصراني’ نفسه بوصفه شخصية الرواية المتعددة لم يأخذ حقه، فاتصلت بالناشر طالبا منه مسامحتي على قراري إيقاف النشر وتفهم موقفي”.
ويضيف “عاودت إرسالها إليه عام 2014، قرأها وقد تضاعف حجمها أكثر من مرتين، حيث عمدت إلى إعادة فصول حذفتها من قبل، بعدما أعدتُ قراءتها وتنقيحها، فاقترح حذفَ المقدمات الموجودة في الرواية، وله أسبابه التي أتفهمها، ولكني كنت مصرًا عليها، كونها سمة إضافية للتقنيات التي عملتُ عليها داخل متون وروايات الرواية، بل إني رفضت حتى مجرد تخفيفها، ومن ثم بقيت الرواية لدي يقرأها المقربون إلكترونيا حتى قبل نهاية 2022، حين أعدت قراءتها بشكل أخير فحذفت وأعدتُ بعض المحذوف من قبلي ونقحتُه، ودفعتها للنشر فظهرتْ الآن، والحقيقة أني نويت إصدارها في عام 2020 من قبل لكن مجيء الكورونا العاصف أجل النشر حتى الأيام الماضية”.
بصراحة أستوعبتُ حضور الناقد والمؤرح في الرواية، إنْ في مقدمته لطبعة 2007 التبشيرية، أو طبعة 2013 الانهزامية اللذيذة، لكني لم أستوعب حضوره المكثف في هوامش الرواية المصاحبة للمتن، نسأل الصلوي إن كان يريد استباق ملاحظات الناقد الواقعي بملاحظات ناقد سارد ومؤرخ حاضر داخل المتن كله حتى في نهاية وما قبل نهاية روايته. ليجيبنا موضحا “ليس هناك ما أخفيه في هذا الشأن حقيقة. وليس في الأمر استباق من أي نوع. كل ما في الأمر أن الناقد شخصية أو فعل نقدي يكاد يكون مغيبا لا في الرواية العربية، بل في الرواية العالمية، فحاولت سحبه إلى داخل متون العمل وجرجرة كرامته الصارمة في فعليات السرد، وعبر إهابات متنوعة وحيوية، تارة ناقدا سرديا محضا، وتارة شخصية من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة، وأشكال متعددة من الصعب إحصاؤها”.
ويتابع “هذا لا يمثل كل الأمر، فالرواية كانت في أمس الحاجة إلى وليد عبدالباسط حنبلة المؤرخ والناقد والفضولي والجارح أحيانا، كما أنَّ باسم عبدالقيوم بعدما استكمل مهمته روائيا ستجده ناقدا محققا في نسخة حنبلة وبعدما أتم مهمته السردية وقل مثل هذا عن عبير، وسامر العبسي المؤرخ. لن تصدقني إذا قلت لك أيضا: إن هذا أيضا ليس كل ما في الأمر”.
نسأل الصلوي من هما “سوء الفهم” و”حسن الظن” الشخصيتان البارزتان في رواية “طفل الثامنة والتسعين النصراني”؟ ولماذا اندمجا بالآخرين في الجزء الثاني؟ وهنا يلفت النظر إلى أن “حسن الظن”، و”سوء الفهم” حالتان إنسانيتان، جعلهما “طفل الثامنة والتسعين النصراني” شخصيتين حقيقيتين، ظهرتا من أول مقدمة للرواية واستمرتا أكثر من 300 صفحة، ثم اندمجتا في شخصيات أخرى وهذا الاندماج اقتضاه منطق النصراني كما اقتضاه لا منطقه أيضا. إذ جمع كل هذه الشخصيات لدفع عجلات النصراني فقط.
حول المطاردات البوليسية التي استعرت قبل نهاية الرواية، وهل قصد إليها عامدا، أم أراد القارئ لاهثا خلف الفعاليات السردية لطفل الرواية، يقول الصلوي “تعيدني مجددا إلى موقع المتهم لكن لا بأس، لذا سأقول مجازا بتمرد أبطال النصراني وحشود فاعليه في النهاية المتنية وتصرفهم بشكل كامل من تلقاء أنفسهم، كذلك فعلوا في التشطيبات الأمامية للرواية في طبعتها الجديدة، وعلى هذا فقس”.
وتعليقا على رؤية البعض أن روايته تشبه “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست في التعقيد البالغ واستشراف المستقبل البعيد، يؤكد أن ثمة فرقا كبيرا بين الروايتين وفوارق أخرى كثيرة، وربما بعد الزمن والترجمة خلقا شيئا من التعقيد مع وجود بعض تعقيد حيوي في النص الأصلي، أما “طفل الثامنة والتسعين النصراني” فليست معقدة البتة، وكل ما تحتاجه آفاقها هو التأمل في تقسيم الفصول الأولى منها، والنظر في تاريخي المقدمتين، ومسميات الفصول الأخيرة، وقد تنبه حنبلة في نهاية مقدمته لطبعة الرواية الأولى بالاسم الجديد 2007، فاقترح للقارئ – وكان ذكيا – عدة مقترحات لقراءة الرواية، وكل مقترح من مقترحاته يمثل رواية مختلفة، أو يقدم توضيحا مهما، كما أن القارئ إن مضى في الرواية سيجدها سلسلة مطواعة.
ويشير الكاتب اليمني إلى الخيوط الأسطورية الكثيرة التي تنتظم جزئي الرواية وما تحمله من إلغاز، قائلا “لا أنكر حضور البعد الأسطوري لاسيما الإغريقي منه، والفارسي والفينيقي، واليمني الديني والفني القديم، وغير ذلك، سوى أن الأسطورة تتحرك بطريقتها في النصراني، ربما مثل حركتها في نصوص الأساطير الأولى نفسها، كما أنها برزتْ داخل النصراني، وقد غدت أكثر محلية، وأكثر معاصرة، بجانب ما تحظى به أساطير الشمال تحديدا من علاقات ودية وأسرية حميمة مع الجهة اليمنية من الكرة الأرضية.
شخصيات الرواية
الشخصيات تحضر بوصفها تاريخا وجهودها ليست توثيقا إذ لم تحضر لتقدم معرفة أو علوما بل لتكون فاعلة
ينفي الصلوي أن وجود شخصيات عالمية، من أول القرن العشرين، والثلاثين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وبدايات القرن الحادي والعشرين، شكل له عائقا فنيا؟ مؤكدا أن شخصيات مثل إدوار جلازر، وستالين وتروتسكي، وجورج لوكاش، وسارتر، وفالتر بنجامين، وبابلو نيرودا، والسير وليم جيمس، وعبدالناصر، وكفافيس، وإدموند جاييس، وأرنولد توينبي، وغيرهم لم يوقفوا سردية الرواية أو يبطئوها ويعقدوها، بل أضاؤوا المتون، كما يمكن أن يلاحظ القارئ مهما كانت ثقافته، أنهم لم يلجوا “النصراني” – “المتن” بوصفهم تاريخا، وجهودهم مجرد توثيق، لم يحضروا معرفة وعلوما بل دخلوا إلى الرواية شخوصا حية متحركة بضعفهم وقوتهم الإنسانية معا.
يذكر أن الحزب الشيوعي غضب من السارد حنبلة بعد إصداره طبعته الأولى عام 2007، ما اضطره إلى إعادة طبعها بإضافات جديدة، كاتبا مقدمة جديدة أنكر فيها كل ما قاله في المقدمة السابقة “مسارات لا بد منها”، مسميا مقدمته الجديدة “تقهقر”. نسأل الصلوي ألا يمكن أن يحدث له ما حدث لشخصيته من قبل بعد صدور “طفل الثامنة والتسعين النصراني”؟
يعترف الكاتب “أخشى؟ لماذا أخشى مثل هذا؟ تحرك فاعلو طفل النصراني بحرية تامة بلا إكراه، أو قسر من قبلي، أو من قبل مسيِّر سردياتهم، وأعني السيد حنبلة، كما أنك ستجد البطل في الرواية يقول عن نقده اللاذع للماركسية وللماركسين العرب أنه لم ينتقد هذه التجربة ويقسو عليها إلا لأنها التجربة الوحيدة التي يمكن البناء عليها من خلال نقدها والاستبسال في غربلة نتائجها، وأهدافها وصورها المختلفة”.
بالغ الصلوي في تمجيد نساء الرواية ورواياتها، فصورهن على نحو مثالي، بحيث بدون كإلهات ومصلحات اجتماعيات، لا تشوبهن شائبة باستثناء امرأة واحدة تحولت من النضال الاشتراكي إلى العمل مع السلطة في صنعاء وزيرة للشؤون الاجتماعية والعمل إن لم تخني الذاكرة. لكنه يوضح “إنهن كذلك يا صديقي. اتصفت نساء النصراني بالجرأة والشجاعة ومقاومة المألوف، والانتصار للإنسان. كنَّ كذلك. هل تريدني أن ألبسهن المعايب والمشين من التصرفات لكي لا أبدو كذلك؟ لقد كن على ما رأيت من الملاحة والحب والإيثار والتمرد، وحتى تلك المرأة التي اشترتها السلطة كانت برغماتية ولم تضر رفاقها الشيوعيين بعد تسنمها صهوة الوزارة”.
برز النصراني أحمد كما هو في الواقع، إلى درجة أفصح عندها أن تلامذته وتلامذة تلاميذه من قادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، يعاملونه مثل مهرج وينصبونه كوزا فارغا في اجتماعاتهم، كما يفعل عدوهم صدام حسين مع معلمه ميشيل عفلق.
كتب الصلوي مقالا عن الرواية عام 2015 في جريدة الحياة اللندنية أسماه “أن يموت قارئ روايتك الأول”، وأشار فيه إلى اسم عبدالجبار الشعبي الذي أهدى له الرواية بعد صدورها عقب ذلك بسنوات، ماذا عن البطل النصراني نفسه ورأيه في الرواية؟ يقول “يشترك في تشكيل هوية البطل أشخاص كثر صنعهم البطل نفسه، وليس عمر عيسى طربوش، ونبيل مسعود، وخالق عبدالقيوم، وفتاح باذيب وغيرهم إلا مساحات واسعة منه، وبلا شك، إن أفصحنا بوجوده الحقيقي، أن فيه أشياء كثيرة منهم، ولا أدل من ذلك من وجود ذلك النص متعدد المعاني”.