طرابلس تستعيد عبق أصالتها بمهرجان المالوف

مثّل الإعلان عن استئناف تنظيم مهرجان طرابلس للمالوف عنوانا لعودة العاصمة الليبية إلى عبق أصالتها بعد سنوات الحرب والصراع، وهي التي تتميّز بثراء فني وثقافي وحضاري لا يزال راسخا من خلال بصماته العريقة في حصونها وأبوابها وجدران بيوتها العتيقة وإيقاعات الحياة في أسواقها وساحاتها وعادات أهلها وتقاليدهم.
عاشت الساحة الثقافية والفنية الليبية على إيقاع فعاليات مهرجان طرابلس الوطني للمالوف والموشحات الدينية الذي انتظم أيام الحادي والعشرين والثاني والعشرين والثالث والعشرين من أغسطس الجاري، بمبادرة من وزارة الثقافة والتنمية المعرفية بحكومة الوحدة الوطنية، وبحضور محبي وعشاق هذا الفن الأصيل والعديد من الأدباء والكتّاب والشعراء والمثقفين والإعلاميين والصحافيين.
وحيّت وزيرة الثقافة والتنمية المعرفية مبروكة توغي الأجيال التي امتدت من المبدعين في تواصل ثقافي فريد، بما ميّز تنوّع الهوية الثقافية الليبية، مشيرة إلى أن الإبداع في فن المالوف يعكس عمق الثقافة الليبية عبر التاريخ.
وقالت توغي إن “التوجه الآن نحو المستقبل لتأسيس ثقافة بناء الدولة على أرضية حب الوطن”، وأكّدت على واجب وزارتها في رعاية التميّز الإبداعي لدى كل شرائح الثقافة والفن وإبرازها للعالم، وفق رؤية تكون فيها ليبيا مركز إشعاع معرفي وثقافي ونموذجا لبقية دول العالم بطريقة تليق بتاريخها الحضاري والثقافي العريق.
وشدّد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة على أهمية الفن في صفاء القلوب والأرواح، مضيفا “نستشعر ذلك الأثر عند الاستمتاع بأذاننا للفن الأصيل”، مؤكّدا تشجيعه للفنون ودعمه للفرق الفنية ومنها فرق المالوف والموشحات.
وبدوره أشاد نائب رئيس المجلس الرئاسي عبدالله اللافي بالتظاهرة، متمنيا أن يكون المالوف كموروث فني وثقافي عريق جسرا لترابط الليبيين، هاتفا “مرحبا بالسلام والفن ووداعا للحرب والفتن”.
أجواء روحانية

مبروكة توغي: فن المالوف يعكس عمق الثقافة الليبية عبر التاريخ
في ساحة قصر الخلد بطرابلس، وبينما كان عبق البخور يملأ المكان، ونسمات البحر تدغدغ القلوب والمشاعر، انطلق المهرجان بعرض لفرقة ليبيا للمالوف والموشحات والموسيقى العربية بقيادة الفنان الشيخ سالم البشير، تلتها فرقة طرابلس للمالوف والمدائح والموسيقى العربية بقيادة الفنان الشيخ يوسف ناصوف، واستمر الحفل إلى ساعة متأخرة من الليل وسط أجواء روحانية مفعمة بالبهجة والسرور للوصلات الفنية التي قدّمت من قبل الفرقتين.
وشهد اليوم الثاني للمهرجان سهرة صوفية بمشاركة فرقة شهداء كعام بمدينة زليتن للمالوف والمدائح والسلاميات التي قدّمت فقرات من المالوف والموشحات وقصائد المديح النبوي، وفرقة بحور المادحين للمالوف والموشحات والأذكار بمدينة سبها التي أمتعت الحضور بعدد من الوصلات على أنغام نوبات المالوف الشجية، وقصائد المديح والموشحات، وأما الوصلة الأخيرة فقدّمتها فرقة “طرابلس للمنوعات”.
وتميّز اليوم الثالث، بحفل أحيته فرقة الخمس للمالوف والموشحات، وبإنشاد من الشيخ يوسف ناصوف، وكان الاختتام مع فرقة “الفجر الجديد” بقيادة الشيخ صالح علي صالح من مدينة سبها.
وعلى هامش المهرجان، نظمت وزارة الثقافة والتنمية المعرفية بقاعة “بلد الطيوب” بديوان الوزارة حفل تكريم الشخصيات والجهات المساهمة والمشاركة في نجاح مهرجان طرابلس الوطني للمالوف، منهم الشيخ عمورة عبدالله إمبارك مؤسّس مهرجان طرابلس للمالوف في العام 2002 والذي استمر حتى الدورة الثانية عشرة لعام 2012، والشيخ الشاعر والملحن محمد أبوعجيلة الشريف مؤسّس ورئيس فرقة طرابلس للمالوف والموشحات والموسيقى العربية، والشيخ يوسف ناصوف قائد فرقة طرابلس للمألوف والمدائح، وقادة بعض الأجهزة الأمنية بوزارة الداخلية.
وكان مهرجان طرابلس للمالوف كان قد انطلق في دورته الأولى عام 2002 بمبادرة من مدير الإذاعة والتلفزيون آنذاك الشاعر عبدالله منصور، وتحت مسمى دورة الشيخ محمد أبوريانة، توالت بعدها الدورات بمسميات متعددة لمشايخ فن المالوف، مثل الشيخ محمد اقنيص، والشيخ حسن الكعامي، والشيخ محمد الشوشان، وآخرها كانت الدورة الحادية عشرة في العام 2013 تحت مسمى دورة الشيخ الطاهر العريبي.
ويرتبط المالوف الليبي في جزء منه بالموشحات الدينية، ولاسيما الفن الصوفي، إلاّ أن المالوف كان قد تم الاحتفاظ به كفن قائم الذات وكتراث وطني وصل إلى البلاد مع الهجرات الأندلسية إلى دول المغرب العربي في القرن الثالث عشر ميلادي، من خلال الزوايا الصوفية وبآلات وأصوات منشديها، واتخذت نوبة المالوف في ليبيا شكلا يختلف عن الأشكال الموجودة في أقطار المغرب العربي الأخرى كتونس والجزائر والمغرب، وذلك بتميّزها من حيث الترتيب وأداء النغم وانفرادها بالإيقاع المميّز في أصول ضغوطه الإيقاعية في الدوائر المختلفة.
خصوصية ليبية
يرى الباحث مصطفى علي أن من أهم المناسبات التي كان يقدّم فيها المالوف تلك المتعلقة بالمولد النبوي الشريف والذي تخرج فيه مواكب الزوايا الصوفية مبتهجة بهذه المناسبة العظيمة في تاريخ البشرية، خصوصا أتباع الطريقة العيساوية المنسوبة للشيخ سيدي امحمد بن عيسى المكناسي المتوفى في العام 933 هجري/ 1527 ميلادي، والتي استعملت هذا الفن واحتضنته طيلة وجودها في ليبيا وربما كانت سببا أصيلا لدخوله للقطر الليبي، مشيرا إلى أن من مظاهر الاحتفال بهذا اليوم خروج أتباع الطريقة العيساوية من الزاوية الكبيرة، والزاوية الصغيرة في اليوم الأول ثم يتوالى احتفال بقية الزوايا في أيام أخرى وتبتهج الناس بهذا اليوم فتلبس له الملابس الراقية والمزركشة وتتعطّر المدينة والشوارع بأجود أنواع البخور والند الفاخر، كما يرش الموكب بماء الزهر وغيرها تعبيرا عن المحبة والفرحة الغامرة بهذه المناسبة السعيدة.
كما أن من المناسبات التي يقدّم فيها فن المالوف أفراح الزفاف، حيث يقدّم منه وصلات في السهرات، وعند إشعال قنديل العريس ليلة الأربعاء، وهي عادة جارية في ليبيا، كما يزفّ العريس لبيت الزوجية بنوبة مالوف، وقد تطوّرت هذه النوبة من فترة من حيث الآلات المستعملة والنوبات التي يؤدّونها فيها، كما يقدّم في مناسبات اجتماعية أخرى مثل الختان، والسكن الجديد، كما أضيفت مناسبة جديدة، هي نجاح الطلبة في المرحلة الثانوية والجامعية، وغيرها من المناسبات، وهذا يعد ازدهارا لحركة المالوف، ففي هذه المناسبات يتعرّف الجيل الجديد على هذا الفن الخالد الذي تغلغل في ذاكرة الشعب الليبي منذ عقود.
نوبات المالوف الليبي متشبّعة بالنفس المشرقي الذي أعطاها تميزا على نظيراتها بتونس والجزائر والمغرب
ويضيف علي أن من المناسبات التي استعمل الليبيون فيها نصوص المالوف تشييع جنائز الموتى خصوصا عند أهل المدينة القديمة، ويخصون بذلك أعيان البلاد، والشباب الذين تختارهم يد المنية وهم عزاب، وأهل الزوايا شيوخا ومريدين.
ويغلب على النصوص المستعملة في هذه المناسبة النصوص ذات المضمون الوعظي والزهدي الابتهالي، والتضرع إلى الله، وذكر محبته، والشوق إلى زيارة حرمه، والروضة النبوية، دون استعمال آلات موسيقية، وتسمى بالششتري نسبة لأبي الحسن الششتري الشاعر والوشاح والزجال الأندلسي دفين مصر سنة 668 هجري/ 1270 ميلادي وله ديوان مطبوع.
ومنذ ثلاثينات القرن الماضي بدأت تتشكّل فرق موسيقية لتقديم هذا اللون الفني في الحفلات العامة والخاصة، وقد بدأت في الانتشار بين الأوساط الأرستقراطية، وفي أكتوبر 1938 خصّص القسم العربي بالإذاعة الإيطالية في طرابلس الغرب مساحات للبث المباشر لفقرات من المالوف كان يشرف عليها ويديرها الشيخ محمود كانون المعروف باسم “البرداش”، وفي العام 1949 انتقل هذا الركن إلى قيادة الشيخ محمد قنيص، فكان يقدّم حصة إذاعية أسبوعية.
وبعد عام واحد انتقل إلى الإذاعة الليبية مع بداية تشكل ملامح الدولة الليبية، ومن هناك بدأت عملية تدوين نوبات المالوف على يد الفنان محمد مرشان في كتابه “الموسيقى قواعد وتراث” ومنها نوبة جمر الهوى المحفوظة في أرشيف الإذاعة الليبية، وكان مرشان قد أدار قسم الموسيقى بالإذاعة في ما بين 1960 و1963، وتم آنذاك تسجيل مسموع لعدد ثماني نوبات مالوف كاملة حسب الترتيب المتّبع في الزوايا.
وفي العام 1964 تأسّست فرقة الإذاعة للمالوف والموشحات بإدارة الفنان حسن العريبي الذي تولى الإشراف على قسم الموسيقى بدلا عن مرشان، وكان من أبرز مدربي الأصوات فيها الشيوخ محمد أبوريانة ومحمد اقنيص وعلي منكوسة، كما ضمت الفرقة العديد من الفنانين الليبيين والعازفين على المستوى المحلي والعربي أمثال المطربين عبداللطيف حويل ومحمد السيليني وخالد سعيد، وعازف الكمان الشهير أحمد الحفناوي والمايسترو عطية شرارة من مصر.
وفي العام ذاته أصدر وزير الثقافة آنذاك الأديب خليفة التليسي قراراه بتكوين لجنة المحافظة على التراث الأندلسي، وهو ما ساعد على تسجيل ما يقرب من 250 نوبة ما زالت محفوظة بقسم الإذاعة.
ويقول الباحث الليبي علي بن السعيد “تتميّز نوبات المالوف الليبي سواء في طرابلس أو برقة بجزالة الألحان وبالنفس المشرقي المتسرب إليها والذي أعطاها تميزا على نظيراتها في تونس والجزائر والمغرب”.
وهناك موشحات ونوبات موسيقية كان يمليها عليهم مشايخ المالوف وردت فيها نصوص مشرقية فتأثّر بها فن المالوف الليبي، ثم أدخلت هذه النصوص الشرقية على النوبة الليبية، وهذا من خلال بعض العوامل التي ساهمت في إبراز هذه النوبات المالوفية وأهمها موقع ليبيا الجغرافي، ما جعلها أكثر الأقطار المعرضة للموسيقى المشرقية، خاصة من خلال رحلات الحجاج الذين يتنقلون عبر المشرق باتجاه البقاع المقدسة.
أما العامل الثاني، فيعود إلى تأثر موسيقى المالوف الليبية بالموسيقى العثمانية بعد وقوع ليبيا تحت وطأة الحكم العثماني لأربعة قرون على التوالي، وكذلك إدخال الآلات الوترية على النوبة من الكمان والعود والقانون إلى جانب محافظة بعض الزوايا على النوبة والتي كانت لا تستعمل من الآلات الموسيقية إلاّ الدف والطبلة.