طبيبك الجديد

بدلا من نقل العرب إلى العيادات النفسية فتحوا لهم عيادات نفسية في الهواء الطلق وباتوا جميعا يعيشون في المستشفى النفسي العربي المفتوح.
الجمعة 2022/05/06
وسائل مدرّبة ومصممة على أن تقوم بخدمة توجهاتك كزبون

جارتنا المهاجرة تبدو كئيبة طيلة الوقت، مع أني علمتُ من زوجها المسالم أنها تنتمي إلى أسرة اشتهر عدد من أفرادها بقيادة المافيا وتتمتع بنفوذ كبير في عائلتها كما تقضي عادات تلك الأسر وتقاليدها.

في هذا العيد، صادفتني في الشارع وأرادت مجاملتي، فهمستْ بكلمتين مقتضبتين ”عيد سعيد“ فرددت بالشكر، وخطر لي أن أسألها كرد على المجاملة عن عملها، فقالت إنها ممرضة. قلت في ثقافتي نسمي الممرضات ”ملائكة الرحمة“، قالت مبتسمة بتهكم ”أنا؟ ملائكة؟“.

ازداد الغموض. وفي الوقت ذاته، اللياقة تقضي أن لا أتعمّق أكثر في أسئلتي. لكن قلت ”إن عملكم متعب، أعرف ذلك“، قالت ”نعم، خاصة حين يكون في مستشفى للأمراض العقلية“.

هنا بدأت الأمور تتضح. تسع ساعات تقضيها هذه المرأة كل يوم مع المعصوف بهم نفسيا من البشر، فمن يدري ماذا ترى وتسمع منهم؟

في اليوم ذاته، عدتُ إلى مكتبي لأقرأ خبرا جديدا يقول إن الذكاء الاصطناعي بات اليوم قادرا على معرفة وضعك النفسي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مما تكتبه ومما تتصفحه على الشبكة.

خوارزميات تبحث فيك دون أن تضعك على كرسي المحلل النفسي في عيادة، أنت من منحها وقتك الطويل. تجمع عنك الكثير من البيانات وترصد كل اهتماماتك. ويمكنها حسبما قال العلماء في جامعة بنسلفانيا التنبؤ بصحتك العقلية.

الأخطر ليس تطفل تلك الوسائل عليك، إنما تواطؤها بالاستثمار في حالتك، فهي في النهاية مدرّبة ومصممة على أن تقوم بخدمة توجهاتك كزبون، وهكذا ستقترح عليك مواد كئيبة تظهر لك من كل مكان.

خذ هذه أيضا. بفضل آلية التعلم الذاتي، تستطيع تلك الخوارزميات أن تفهم كل شيء عنك خلال فترة قياسية، كم تعتقد؟ ما هي إلا ثلاثة أشهر فقط، حتى تصبح قادرة على نقلك إلى قسم الطوارئ تحت وطأة الانهيار النفسي، كما كشفت الإحصاءات التي أجراها الباحثون.

أفهم من ذلك عدة أمور، لكن أبرزها أن الدرع النفسي الذي يحيط به كل منا، نحن العرب، نفسه بدا لي أكثر صلابة من المتوقّع، فإذا كانت شهور ثلاثة فقط قادرة على نقل المئات من الحالات إلى الطوارئ في الولايات المتحدة، فلماذا لم يحصل هذا في العالم العربي خلال أعوام مضت؟

ورغم عظمة ذلك الشعر العربي القديم الذي يقول ”دواؤُكَ فيكَ وما تُبصِرُ، ودَاؤُكَ منكَ وما تشعُرُ، فأَنتَ الكِتابُ المُبينُ الذي، بأَحرُفهِ يظهَرُ المُضَمَرُ، وما حاجةٌ لكَ من خارِجٍ، وفِكرُكَ فيكَ وما تُصدِرُ“، إلا أن الجواب واضح. بدلا من نقل العرب إلى العيادات النفسية فتحوا لهم عيادات نفسية في الهواء الطلق وباتوا جميعا يعيشون في المستشفى النفسي العربي المفتوح.

20