ضغوط معسكر الموالاة لإيران يضيّق أفق الحوار الإستراتيجي بين بغداد وواشنطن

ستكون الحكومة العراقية وهي تدشّن المرحلة الثانية من الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتّحدة تحت ضغط مزدوج من قبل معسكر الموالاة لإيران الذي يدفع باتّجاه إضعاف العلاقة بين بغداد وواشنطن لمصلحة طهران ويتّخذ من قضية الوجود العسكري الأميركي على الأراضي العراقية وسيلة لذلك، وأيضا تحت ضغط الشريك الأميركي نفسه المعني بالحفاظ على مصالح الولايات المتّحدة في العراق ويمتلك للدفاع عنها أوراقا مؤثّرة سياسية وأمنية واقتصادية.
بغداد - لخّصت انتقادات حادّة وجّهها زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي لحكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بشأن طريقة تعاملها مع قضية الوجود العسكري الأجنبي في البلاد وتهديدات أطلقها باستهداف القوات الأميركية، حجم الصعوبات التي يواجهها الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتّحدة والذي تنطلق مرحلته الثانية في السابع من أفريل الجاري.
وقال الخزعلي الذي يُنظر إلى آرائه ومواقفه كانعكاس لمنظور الحرس الثوري الإيراني إنّه “لا مجال لاستمرار القواعد العسكرية الأميركية لا في قاعدة عين الأسد بالأنبار ولا في قاعدة الحرير في أربيل ولا في أي مكان”.
كما طالب قائد العصائب حكومة الكاظمي بتنفيذ قرار البرلمان بإخراج القوات الأجنبية من العراق قائلا إنّ عليها أن ترتقي إلى “مستوى المسؤولية وعليها أن تكون شجاعة وأن تعكس إرادة الشعب وقرار البرلمان”.
ويهدف الحوار الذي أُنجزت مرحلته الأولى في عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للتوصّل إلى صيغة توافقية لتحقيق مصلحة الجانبين العراقي والأميركي حيث ترتبط بغداد بواشنطن بمصالح اقتصادية وأمنية حيوية، فيما تحرص واشنطن على الحفاظ على موطئ قدم سياسي واقتصادي وعسكري في العراق لتجنّب إخلاء الساحة أمام الغريمة إيران.
لكنّ وجود أطراف عراقية قوية مشكّلة لما يُعرف بمعسكر الموالاة لطهران يعسّر من مهمّة حكومة الكاظمي في إدارة حوار استراتيجي مع الولايات المتّحدة بالطريقة الملائمة لتحقيق الأهداف المنشودة من ورائه.
وبطلب من حكومة العراق وافقت الإدارة الأميركية على استئناف الحوار الاستراتيجي بينهما في مرحلته الثانية عبر دائرة تلفزيونية مغلقة لبحث التعاون والتنسيق في مجالات الأمن والثقافة والتجارة والمناخ والصحة ومكافحة الإرهاب والاقتصاد والطاقة.
ويدرك البلدان أن التعاون الثنائي أمر حيوي في محاربة الإرهاب بما “يخدم المصالح المشتركة على أساس احترام سيادة العراق وتعزيز مؤسساته ومستقبل الشراكة بين الطرفين” كما حددتها اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة عام 2008 وبموجبها اتُفق على سحب القوات الأميركية من العراق بحلول نهاية 2011.
وتدعم واشنطن حكومة الكاظمي الانتقالية في إجراء انتخابات مبكرة في العاشر من أكتوبر المقبل ومواصلة تعزيز قدرات القوات الأمنية لفرض سلطة الدولة ونزع سلاح المجموعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران، والتي تستهدف الوجود الأميركي في العراق.
ووفقا للبيت الأبيض عبر بيان صدر في 23 مارس الماضي، فإن قوات التحالف الدولي التي تقودها الولايات المتحدة تتواجد في العراق لتقديم المشورة والتدريب للقوات الأمنية العراقية لمنع تنظيم داعش من إعادة نشاطاته في البلد.
وتأتي المرحلة الثانية من الحوار الاستراتيجي وهي الأولى في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن بعد جولتين من الحوار مع إدارة الرئيس السابق ترامب خلال عام 2020، الأولى يومي 10 و11 يونيو عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، والثانية يومي 19 و20 أغسطس خلال زيارة الكاظمي للولايات المتّحدة.
وأكدت واشنطن خلال المرحلة الأولى من الحوار الاستراتيجي التزامها بسيادة العراق ووحدة أراضيه وجدولة انسحاب القوات الأميركية خلال ثلاث سنوات، يتم خلالها تأهيل القوات الأمنية العراقية مع استمرار الولايات المتحدة في تقديم الدعم في الحرب على داعش ومساعدة العراق اقتصاديا، ودعم حكومة الكاظمي في إجراء انتخابات مبكرة.
ويشير مسؤولون أميركيون إلى أن مباحثات الطرفين في جلسات الحوار الاستراتيجي المقبلة ستركز على التنسيق والتعاون لضمان الهزيمة الكاملة لداعش، وما يمكن أن تقدمه القوات الأميركية المتواجدة في العراق من دعم للقوات الأمنية العراقية.
كما ستركز المناقشات على انسحاب المزيد من الجنود الأميركيين المُقدر عددهم بنحو 2500 جندي مازالوا في العراق بعد سحب أكثر من 2700 منهم خلال العام الأخير من ولاية ترامب.
وقلّصت الولايات المتحدة تواجدها العسكري في العراق بنحو 60 في المئة بعد جولتي الحوار الاستراتيجي العام الماضي، حيث خفّض ترامب عدد القوات الأميركية من أكثر من 5200 جندي إلى 2500، قبل مغادرته البيت الأبيض في يناير الماضي.
وحسب تصريح للكاظمي، ستواصل الحكومة العراقية مناقشة إعادة نشر القوات الأميركية خارج العراق في جلسات الحوار المقبلة.
ومنذ إعلان خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر الماضي، توافقت المجموعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران على “هدنة مؤقتة” بوقف استهداف البعثات الأجنبية، مقابل مطالبة الكاظمي لواشنطن رسميا بسحب قواتها من العراق.
وفي مناسبات عدة أحدثُها خطاب له في 11 مارس الماضي أكد المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي أنّه “يجب على الولايات المتحدة الخروج من العراق”.
وصعّدت المجموعات المسلحة الحليفة لإيران من وتيرة هجماتها على القواعد والمرافق الدبلوماسية الأميركية بالعراق منذ مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقية أبومهدي المهندس في 3 يناير 2020 في غارة جوّية أميركية قرب مطار بغداد الدولي بأمر مباشر من ترامب.

وتطالب المجموعات الشيعية المسلحة عبر ممثلي أجنحتها السياسية في مجلس النواب العراقي بإخراج جميع القوات الأميركية من العراق، بعد أن مررت في 5 يناير 2020 قرارا بالطلب من واشنطن سحب جنودها من العراق، وهو قرار غير ملزم للسلطة التنفيذية أي الحكومة العراقية لعدم مصادقة رئيس الجمهورية عليه.
وقال الخزعلي في كلمة له خلال المؤتمر السنوي الأول في محافظة ذي قار لعشائر الجنوب لإحياء ذكرى “الانتفاضة الشعبانية وفتوى الجهاد الكفائي”، “نؤكد من جانبنا كفصائل مقاومة إسلامية أنّنا حملنا ونحمل سلاحنا من أجل إنهاء الاحتلال العسكري وإزالة كل وجوده والقواعد العسكرية الأميركية”.
وفي نبرة تهديد واضحة أضاف زعيم العصائب “عمليات المقاومة الموجودة حاليا ستستمر وتزداد كمّا ونوعا إذا لم توافق الولايات المتحدة على غلق القواعد في غرب ووسط وحتى في شمال العراق”، في إشارة إلى إقليم كردستان العراق الذي تعرّض خلال الأشهر الأخيرة لهجمات صاروخية اُتّهمت ميليشيات شيعية بتنفيذها.
ويعكس تركيز الخزعلي على شمال العراق توقّعات بأن تتخذ الولايات المتّحدة من أراضي الإقليم موطنا بديلا لقواتها التي قد تضطر لسحبها من مناطق عراقية أخرى.
وتشدّد الكتل النيابية العراقية المقرّبة من إيران على وجوب سحب جميع القوات الأجنبية من العراق، والقوات الأميركية خاصة. بينما تتفق الكتل السياسية العربية السُنيّة والكردية على ضرورة الإبقاء على القوات الأميركية لمهام قتالية في الحرب على داعش الذي لا يزال ينشط في العديد من المحافظات السُنيّة في شمال وغرب البلاد وفي المناطق المتنازع عليها على الحدود الإدارية لمحافظات إقليم كردستان العراق.
ويتبنى مجلس النواب العراقي الذي تهيمن عليه أغلبية شيعية إلزام حكومة الكاظمي بقرار المجلس بإخراج جميع القوات الأجنبية من العراق، وهو القرار الذي صدر عن مجلس النواب دون التصويت عليه من النواب العرب السُنة والأكراد.
وفي تصريحات للنائب عن ائتلاف دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي كشف كاطع الركابي عضو لجنة الأمن والدفاع بمجلس النواب (البرلمان) أنه أكد على الوفد العراقي المقرر مشاركته في جلسات الحوار الاستراتيجي على ضرورة تنفيذ قرار المجلس بإخراج القوات الأجنبية وأنه سيكون هناك موقف للمجلس في حال انتهت جولة الحوار دون إقرار الانسحاب.
ومن المحتمل أن تسحب الإدارة الأميركية المزيد من جنودها القتاليين بعد الاتفاق مع بغداد في جلسات الحوار المقبلة مع الإبقاء على عدد من المستشارين لدعم مهمات جنود حلف شمال الأطلسي الناتو الذين سيزيد الحلف عددهم في العراق إلى نحو 4000 فرد بعد تخفيضه في 2020 بسبب جائحة كورونا حسب تصريحات الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ في فبراير الماضي.
وصوّتت لجنة في مجلس النواب الأميركي في 26 مارس الماضي على إلغاء التفويض العسكري المتعلق بغزو العراق عام 2003 على أن يُعرض لاحقا للتصويت عليه في مجلسي النواب والشيوخ ليُصبح نافذا في حال صادق عليه الرئيس الأميركي.
ويتوقع مراقبون أن يكون وضع جدول زمني لانسحاب القوات القتالية الأميركية من العراق على رأس أولويات مناقشات المرحلة الثانية من الحوار الاستراتيجي، لكنه من المستبعد أن توافق الإدارة الأميركية على سحب جميع قواتها القتالية من العراق.
لذلك فإن الولايات المتحدة قد تضع العراقيين أمام خيارين، فإما إبقاء وضع القوات الأميركية على ما هو عليه لأداء مهامها بنجاح وفق رؤية القادة العسكريين الأميركيين، أو الانسحاب الكلي وهو ما تسعى إليه الكتل السياسية الشيعية لكنه لا يتوافق مع رغبة الحكومة العراقية التي تسعى إلى إبقاء قوات أميركية بأعداد محدودة تكفي لدعم القوات الأمنية في الحرب على داعش.
غير أنّ الورقة الأمنية ليست الوحيدة بيد واشنطن إذا ما أرادت ممارسة ضغوط على بغداد إذ أنّ الورقة المالية والأمنية ما تزال مؤثرة إذا ما أريد استخدامها، وهو ما تجلّى بوضوح لدى فرض إدارة ترامب عقوبات شديدة على إيران، ولو لم تمكّن واشنطن بغداد من استثناءات لكان العراق قد عجز حتّى عن استيراد الغاز والكهرباء من إيران اللذين يعتمد عليهما بشكل كبير.