ضغوط فرنسا تجبر عون على التخلي عن بدعة "التأليف قبل التكليف"

زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون والتحذيرات الفرنسية المتوالية أعطتا ثمارهما على ما يبدو في دفع عجلة تشكيل الحكومة اللبنانية، وتخلي عون عن بدعة “التأليف قبل التكليف” التي كانت الغاية منها بقاء الفريق السياسي المهيمن المتحكم في لعبة اختيار الحكومة العتيدة.
بيروت – اضطر الرئيس اللبناني ميشال عون إلى التخلي عن شرط “التأليف قبل التكليف” على وقع ضغوط فرنسية متزايدة. وأعلنت رئاسة الجمهورية عن بدء الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس وزراء جديد يوم الإثنين المقبل.
وأوردت الرئاسة اللبنانية الجمعة على حسابها في موقع تويتر “تم تحديد موعد الاستشارات النيابية يوم الإثنين المقبل”.
وقدّمت حكومة حسان دياب استقالتها على وقع غضب الشارع بعد نحو أسبوع من انفجار المرفأ المروّع الذي تسبب بمقتل أكثر من 180 شخصا وألحق أضرارا جسيمة بعدد من أحياء العاصمة اللبنانية.
وستتعاقب الكتل النيابية التابعة للأحزاب والنواب المستقلين على القصر الرئاسي للقاء الرئيس ميشال عون منذ التاسعة (06.00 ت غ) من صباح الإثنين لتسمية مرشحهم لتشكيل الحكومة المقبلة.
وكان عون ومن خلفه صهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يصران على ضرورة الاتفاق على شكل الحكومة وتركيبتها قبل تكليف شخصية لتولي رئاسة الوزراء، في خطوة وصفها كثيرون بالبدعة الدستورية التي يحاول من خلالها الثنائي فرض إرادته على الحكومة المستقبلية، مثلما حصل مع حكومة دياب.
وسبق أن تمسك عون بهذا الشرط عند تشكيل حكومة تصريف الأعمال الحالية في يناير الماضي، ما أثار حينها ردود فعل غاضبة لاسيما من قبل الطائفة السنية التي اعتبرت أن الأمر يندرج في سياق التعدي على حقوقها الدستورية من خلال إفراغ رئاسة الحكومة التي تعود إليها بالنظر، وفق اتفاق الطائف، من صلاحياتها.
وتأتي المشاورات النيابية التي دعت إليها رئاسة الجمهورية قبل ساعات قليلة من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المقررة ليومي الإثنين والثلاثاء، والتي تتزامن مع الاحتفال بذكرى تأسيس لبنان الكبير في عام 1920.
وحذر الرئيس الفرنسي مساء الجمعة من “حرب أهليةً” في لبنان “إذا تخلينا عنهً”.
مسؤول بالإليزيه يوضح أن زيارة ماكرون المرتقبة هدفها الضغط على الساسة اللبنانيين للمضي قدما في تشكيل حكومة
وقال مسؤول بالرئاسة الفرنسية في وقت سابق إن الرئيس ماكرون سيتوجه إلى بيروت الأسبوع المقبل للضغط على الساسة اللبنانيين من أجل المضي قدما في تشكيل حكومة يمكنها أن تطبق إصلاحات عاجلة.
وصرّح المسؤول للصحافيين بأن “الرئيس أوضح أنه لن يستسلم. وقطع على نفسه عهدا بفعل كل ما هو ضروري وممارسة الضغوط اللازمة لتطبيق هذا البرنامج”. وأضاف المسؤول أن الوقت حان لتنحي الأحزاب السياسية اللبنانية جانبا مؤقتا وضمان تشكيل حكومة تعمل على التغيير”.
واستبق ماكرون زيارته إلى بيروت بطرح خارطة طريق، تتضمن إصلاحات سياسية واقتصادية من شأنها أن تفتح الأبواب مجددا أمام تدفق المساعدات الأجنبية، لاسيما وأن الوضع الاقتصادي والمالي لم يعد يحتمل وبات يهدد بانفجارات شعبية وأمنية، على غرار ما جرى ليل الخميس في الخلدة جنوب العاصمة بيروت من صدامات ذات أبعاد طائفية أدت إلى سقوط قتلى وجرحى.
وتقول الورقة الفرنسية التي سلمها السفير الفرنسي إلى بيروت، للمسؤولين والسياسيين اللبنانيين إن “الأولوية ينبغي أن تكون تشكيل حكومة فورا لتفادي فراغ في السلطة والذي من شأنه أن يغرق لبنان أكثر في الأزمة التي يعاني منها”.
وتتناول الورقة أربعة قطاعات أخرى بحاجة إلى عناية عاجلة، وهي المساعدة الإنسانية وتعامل السلطات مع جائحة كوفيد – 19 وإعادة الإعمار بعد انفجار الرابع من أغسطس في مرفأ بيروت، والإصلاحات السياسية والاقتصادية وانتخابات برلمانية تشريعية.
كما تدعو الورقة إلى إحراز تقدم في محادثات صندوق النقد الدولي، وإشراف الأمم المتحدة على أموال المساعدات الإنسانية الدولية التي تم التعهد بتقديمها للبنان في الأسابيع الأخيرة، فضلا عن إجراء تحقيق محايد في سبب انفجار كميات هائلة من المواد شديدة الانفجار والمخزنة بشكل غير آمن في الميناء لسنوات.
ومع تراجع الحماسة الدولية التي سجلت عقب انفجار بيروت، تبدو باريس مصرة على المضي قدما في دفع القوى اللبنانية إلى تبني مسار جدي لتحقيق الإصلاحات المطلوبة. ويقول متابعون إن المسؤولين في لبنان ليس لهم من خيار سوى الحفاظ على الدعم الفرنسي لأن سحب باريس الغطاء عن لبنان سيكون كارثيا لجهة فك الارتباط كليا مع المجتمع الدولي. ويعتقد المراقبون أن القوى اللبنانية ستحرص على ضرورة الانتهاء سريعا من اختيار رئيس للوزارء وأن عون وحليفه حزب الله مجبران على تقديم تنازلات لتسهيل هذه المهمة.
ورغم تكتم القوى السياسية عن الشخصيات التي سترشحها لهذا المنصب خلال الاستشارات النيابية سجلت عودة بعض الأسماء إلى التداول على غرار رئيس الوزراء الأسبق تمام سلام.
وأوردت صحيفة “النهار” على صفحتها الأولى الجمعة “استشارات ‘رفع المسؤولية’ بعد التحذير الفرنسي الأخطر”، وغرّد الزعيم الدرزي وليد جنبلاط “تحددت الاستشارات نهار الإثنين حياءً كون الرئيس الفرنسي سيأتي” إلى بيروت.
وكررت فرنسا الخميس دعوتها لبنان إلى الإسراع في تشكيل حكومة واعتماد إصلاحات “عاجلة”. وحذر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان من أن “الخطر اليوم هو اختفاء لبنان، لذلك يجب اتخاذ هذه الإجراءات”.
وكان حزب الله، القوة العسكرية والسياسية الأبرز، استبق مشاورات التكليف بإعلانه على لسان أمينه العام حسن نصرالله رفضه تشكيل أي حكومة “حيادية”، وهو المطلب الذي يرفعه المتظاهرون الذين يحمّلون الطبقة السياسية الحاكمة مسؤولية الأزمات الاقتصادية المتلاحقة ومن ثم انفجار المرفأ المروع. ودعا نصرالله، الذي يشكل مع رئيس الجمهورية وحلفائهما أكثرية وازنة في البرلمان، قبل أسبوعين إلى “تشكيل حكومة وحدة وطنية وإن لم يمكن لحكومة ذات أوسع تمثيل ممكن من سياسيين واختصاصيين”.
ويقول متابعون إن الاتفاق على رئيس للوزراء هو خطوة الألف ميل، وتُظهر تجارب سابقة أن تشكيل الحكومات في لبنان ليس بالأمر البسيط في ظل تعقيدات التركيبة الاجتماعية الطائفية والمذهبية، وتجاذبات بين قوى خارجية داعمة للقوى السياسية، على رأسها إيران وسوريا والسعودية والغرب.
ولم تكن آخر تجربة “حكومة وحدة وطنية” برئاسة سعد الحريري ناجحة، إذ سقطت بعد نحو ثلاث سنوات من تشكيلها على وقع احتجاجات ضخمة في الشارع في أكتوبر الماضي. وكانت تضم ممثلين عن معظم الأحزاب السياسية وولدت بعد سنتين من فراغ في سدة رئاسة الجمهورية إثر تسوية هشّة شلّت المؤسسات وعطّلت القرارات.
وعقب انفجار المرفأ، توالت الدعوات الغربية، لاسيما الفرنسية والأميركية، إلى الإسراع في تشكيل حكومة تعكس “تغييراً حقيقياً” وتبدأ بإصلاحات ملحة في وقت تطالب فيه جهات عدة منذ فترة بـ”حياد لبنان”، في رسالة واضحة إلى حزب الله تدعوه إلى ضرورة التخلي عن سياسته الموالية لإيران وسوريا.