ضربني وبكى
بحث حديث خفيف الظل يؤكد على أن الشعور بالتعاسة والقهر لا يسبب الوفاة فإذا كنت تشعر بالحزن وأدمنت القهر، فربما يغير هذا الخبر الظريف من لون مزاجك الرمادي وطريقتك الفريدة في الاستمتاع بأحزانك وإحباطاتك من دون خوف من نتائجها الوخيمة.
على مدى عقود، خدَعنا بعض الأطباء وهم يزينون لنا فوائد الشعور بالرضا والسعادة ومدى فاعليتهما في إطالة أعمارنا. والآن، يعكف باحثون في جامعة أوكسفورد البريطانية على تقصي الدوافع التي جعلت هؤلاء الأطباء ينجحون في خداعنا كل هذه المدة من دون أن يشعروا بالخجل، وعدا ذلك، فإنهم (أي الأطباء) خلطوا الأمور وقطعوا حبال المنطق بين النتائج والأسباب، بمعنى أنهم لم يحسموا الجدل بعد بين أن يؤدي المرض إلى الشعور بالتعاسة والقهر، أو أن التعاسة والقهر هي التي تؤدي إلى المرض وثم الموت.
هذا التقاطع في الأفكار تم تفسيره مؤخراً بمجهود علماء شباب، أكدوا على أن القهر والحزن قد يدفعان بالمرء إلى الاستهتار بنظام حياته الصحي حيث يلجأ بسببهما إلى الإفراط في التدخين وتعاطي الكحول والابتعاد عن تناول الطعام الصحي، وبهذا تتدهور صحته تماما، الأمر الذي يعجّل بنهايته وإن من دون هذه الخطوات (الانتحارية) لن يحدث الموت. وهكذا، فإن نقطة الخلاف الجوهرية تتعلق بالعلاقة المباشرة والفورية بين الشعور بالتعاسة والموت، أي أنه خلاف يتعلق بماهية الحشوة التي تملأ الفراغ الواقع بين الاثنين.
من هذه الزاوية الحادة، يبدو الأمر معقدا إلى حد ما، لكن العقدة يمكنها أن تحل إذا نجحنا في تطبيق النظرية على أرض الواقع، فهناك أنواع لا حصر لها من القهر ومنها؛ القهر النفسي والاجتماعي والسياسي والعاطفي كما أن هناك درجات متفاوتة من القهر بعضها يؤدي إلى الموت وبعضها لا يؤدي إلى شيء، وهناك ضحايا أكثر عرضة من غيرهم للقهر الواقع عليهم من أشخاص أعلى منهم في المرتبة سواء تمثلت هذه المرتبة بالسلطة السياسية أو المنصب الديني أو السلّم الاجتماعي أو الحقارة.
عندما يحلم الطفل الفقير، مثلاً، باقتناء لعبة ولا يستطيع إليها سبيلاً يصاب بالقهر العاطفي، وهو شعور مزعج لا يفارقه حتى بعد أن يكبر وتتسع دائرة أحلامه ودوائر حرمانه وهذا نوع من القهر لا يؤدي إلى الموت في الغالب، أما الأب الذي لا يجد قوت أسرته وتغلق في وجهه أبواب العمل الشريف فيصاب بنوع من القهر الاجتماعي وهو شعور بالعجز والدونية قلما يبارحه. وبالطبع لا يتسبب هذا القهر في موت الأب لأن الفقر سيمنعه من زيادة معدل التدخين وتعاطي الكحول والاستمتاع بوجبات طعام دسمة، لكن الأمر يختلف مع الأم التي تفقد فلذة كبدها في ساحات معارك وهمية حيث يتحول القهر هنا إلى ألم مزمن لا شفاء منه. أما الموت فيصفعها في كل لحظة تداعب فيها مخيلتها صورا من الماضي حين كان حضنها سريرا للولد الراقد تحت التراب، وهذا النوع من الموت عادةً لا يتم تداوله في مختبرات البحث النفسي لكونه يقع خارج إطار المنطق.
بيد أن هناك نوعا آخر من القهر لم يتحقق منه الباحثون (الأكسفورديون) جيداً؛ وهو القهر الذي يتسبب فيه السياسي الذي يضرب الناس فيبكي ويسبقهم إلى ساحات التظاهر ليشتكي على نفسه، ولعل المسافة الافتراضية التي تباعد بين الإصابة بهذا النوع من القهر السياسي والموت السريري، تشبه كثيراً المسافة الواقعة بين رصاصة تخرج من مسدس جلاد وجسد سجين محكوم بالإعدام، حيث تأتي سريعة ساخنة وحاسمة تشبه شهقة مكتومة.