ضد الرومانسية البيئية، دفاعا عن النمو

الرومانسية حتى وإن اتفقنا على أنها انتهت في الفن إلا أنها استمرت في الفكر والسياسة والاقتصاد وقد يكون ملف المناخ والبيئة واحدا من أكثر الملفات جذبا للشطحات الرومانسية اليوم.
الثلاثاء 2022/11/15
المناخ والبيئة ملفان يجذبان الشطحات الرومانسية اليوم

نستطيع أن نجزم أن هناك ميلا غريزيا لدى البشر لرؤية الجانب السلبي من الأمور، وأن النصف الفارغ من الكأس كان ولا يزال يجذب انتباه الجميع.

من يسمع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تحث المجتمعين في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب 27) في منتجع شرم الشيخ بمصر يوم الثامن من نوفمبر، يكتشف هذا النزوع إلى التركيز على الجانب المظلم.

أورسولا خاطبت زعماء العالم بكلمات مؤثرة قائلة “دعونا نتجنب الطريق السريع إلى الجحيم، ونأخذ تذكرة الطاقة النظيفة إلى الجنة”، مؤكدة أن أزمة الوقود الأحفوري التي شهدها العالم إثر الغزو الروسي لأوكرانيا ستغير قواعد اللعبة.

الدعوة إلى تجنب الطريق إلى الجحيم، بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، وهي الفترة التي شهدت ظهور المدرسة الرومانسية، كردة فعل ضد الثورة الصناعية، وكانت أولى تجلياتها في فرنسا ومنها انتشرت إلى بلدان أوروبية أخرى، وخاصة إنجلترا وألمانيا وإسبانيا، ووصلت إلى ذروتها في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

◘ العدالة الاجتماعية مطلوبة، ولكن ليس على جثة النظام الرأسمالي، كما يحلم رومانسيو القرن الحادي والعشرين. بل بتوظيف التكنولوجيا والبحث عن حلول بديلة

النزعة الرومانسية إلى جانب كونها ردة فعل ضد الثورة الصناعية، كانت أيضا ثورة ضد الأرستقراطية والمعايير الاجتماعية والسياسية السائدة في عصر التنوير. ولم تقتصر تأثيراتها على الفنون البصرية والموسيقى والأدب كما يعتقد، بل شملت قراءة التاريخ ومناهج التعليم. وكان تأثيرها الأخطر على الفكر والسياسة، وتجلى بالارتباط الوثيق بين الرومانسية والفكر الليبرالي والراديكالي وعلى المد القومي لدى الشعوب. ويمكن الإشارة هنا دون التوقف طويلا، إلى أن الإسلام السياسي كفكر راديكالي متطرف هو أحد مظاهر الردة الرومانسية.

الرومانسية، حتى وإن اتفقنا على أنها انتهت في الموسيقى والرسم والأدب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا أنها استمرت في الفكر والسياسة والاقتصاد. وقد يكون ملف المناخ والبيئة واحدا من أكثر الملفات جذبا للشطحات الرومانسية اليوم.

ما قالته أورسولا صحيح ويجب أن نؤيده بشدة، ولكن يجب ألاّ يوظف بتأجيج مخاوف اجتماعية تروّج لأفكار معادية للتكنولوجيا ولفكرة النمو.

المخاوف بشأن البيئة والتغير المناخي الحاصل، رغم مشروعيتها، شجعت على ظهور من يروّج إلى الدعوة لتراجع النمو، ومعارضة النمو المستدام. غير أن هذه الفكرة لا تخلو من مشاكل خطيرة جدا.

المخاطر البيئية وما تلاها مؤخرا من أزمة في الطاقة العالمية إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، زودت دعاة تراجع النمو بذرائع تبدو للوهلة الأولى قوية. منها قولهم إن “النمو إلى ما لا نهاية مستحيل”، وإن “النظام الرأسمالي الإنتاجي والاستهلاكي يجب أن يتوقف”.

وبدلا من الدعوة لنظام شيوعي يطالبون بـ”اقتصاد الرفاهية”. ويشمل فيما يشمل “تقليص ساعات العمل، وحظر الإعلانات والأرباح، وتعزيز العدالة الاجتماعية وتحويل الشركات إلى تعاونيات يطلب منها إثبات فائدتها الاجتماعية”.

أي رائحة تصدر عن هذا الكلام؟

إنها رائحة فكر طوباوي رومانسي تقوده أنظمة شمولية، من شأن هذه النظم أن تعيق الابتكار وتعجز عن تحقيق العوائد الضرورية لتمويل قطاعات الخدمات وتحقيق حلم العدالة الاجتماعية.

أنظمة مثل هذه كان العالم قد اختبر مساوئها. فما هو ضمان نجاحها اليوم؟

◘ الدعوة إلى تجنب الطريق إلى الجحيم، بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، وهي الفترة التي شهدت ظهور المدرسة الرومانسية، كردة فعل ضد الثورة الصناعية

قد يكون مفيدا هنا أن نذكر بعض الأمثلة للكشف عن هشاشة أصحاب الفكر الرومانسي الذين يتغنّون بعالم ما قبل الثورة الصناعية والتكنولوجية التي يقولون إنها تهدد مستقبل البشرية.

توت عنخ أمون الفرعون المصري، وكان أقوى شخص على وجه الأرض، توفي عن عمر يناهز 19 عاما بسبب عدوى إثر كسر في العظام. وملكة بريطانيا آن التي توفيت عن عمر 49 عاما كان لديها 17 حالة حمل، وتوفي أطول أطفالها عمرا وهو في سن الحادية عشرة. ثلث أطفال العالم كانوا يموتون في عهدها أثناء الولادة، وثلثهم الآخر يموت قبل بلوغ سن المراهقة.

هل يعلم الرومانسيون الذين تغنوا بأغنية محلاها عيشة الفلاح، كم من الأرواح أزهقت البلهارسيا في مصر؟

النمو الذي يطالب الرومانسيون الجدد اليوم الحد منه، هو ما كان وراء “الهروب الكبير” من “البؤس الإنساني” كما يقول الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل أنجوس ديتون.

العدالة الاجتماعية مطلوبة، ولكن ليس على جثة النظام الرأسمالي، كما يحلم رومانسيو القرن الحادي والعشرين. بل بتوظيف التكنولوجيا والبحث عن حلول بديلة، قد يكون من بينها الانتقال للعيش على كوكب آخر.

8